بريطانيا وأوروبا.. فجوة لن تجسّر أبدا

TT

بأمر البرلمان الأوروبي ورغم اعتراضات رئيس وزراء المملكة المتحدة ديفيد كاميرون، رشحت حكومات الاتحاد الأوروبي جان كلود جنكر لمنصب الرئيس المقبل للمفوضية الأوروبية، وهو المرشح الذي لا يعجب قادة الدول كثيرا، وهو يؤيد نوعا من الاتحاد الأوروبي لا يريده عدد متزايد من المواطنين الأوروبيين.

وحقق البرلمان نصرا مهما، سيندم عليه. وعندما يصوت البرلمان أواخر الشهر الحالي لاختيار مرشحه، سيضع البرلمان مرشحا «فيدراليا»، أي أنه شخص مناصر لأجهزة أوروبية أكثر قوة على رأس إدارة تنفيذية للاتحاد الأوروبي قوية أصلا. كما سيؤكد ذلك تفسير دستور الاتحاد الأوروبي الذي يزيد من وزنه في النظام الحكومي للاتحاد الأوروبي.

ذكرت في مقال سابق أن من المحتمل أن يمضي البرلمان الأوروبي في سعيه إلى تعيين جنكر، رغم أن الاتفاقيات الأوروبية لا تعطيه سوى دور استشاري فقط. ولم يكن ذلك صحيحا كما نوه أحد القراء، فبحسب القواعد الحالية تقترح الحكومات مرشحا مع أخذ انتخابات البرلمان الأوروبي في الاعتبار، ثم يصوت البرلمان بعد ذلك، وإن لم يحصل المرشح على دعم الأغلبية فعلى الحكومات تقديم مرشح آخر. وبحسب الاتفاقية فدور البرلمان ليس إشرافيا فقط، بل له صوت أيضا. ويمكن فهم هذا الترتيب بطريقتين، فبحسب إحدى وجهات النظر ترشح الحكومات الوطنية ويقرر البرلمان ما إن كان سيؤكد الترشيح أم لا، كما يرشح الرئيس الأميركي كبار المسؤولين ويوافق النواب على ذلك أو يرفضون. وبحسب وجهة النظر الأخرى تكون الحكومات الوطنية في موقف المتفرج، فالبرلمان هو الذي يختار وتقوم الحكومات بالتسهيل.

قاعدة واحدة وتفسيران شاسعا الاختلاف. ويؤكد البرلمان الطريقة الثانية عندما يخبر الحكومات بالمرشح الذي يجب أن تقدمه لتجري الموافقة عليه، ولا يكون للحكومات سوى قبول ذلك الفهم. لم يعد رئيس المفوضية شخصا بيروقراطيا يختار بإجماع القادة الوطنيين، ومن الآن فصاعدا أصبح المنصب سياسيا بشكل صريح، وسيحتاج المتقدمون للمنصب إلى تفويض ديمقراطي، وهو تفويض لا يعلم معظم الناخبين الأوروبيين أنهم يمنحونه.

قد تتساءل: كيف يمكن لتفويض لا يعلم الناخبون الأوروبيون أنهم منحوه أن يكون تفويضا؟ ويدور مثل ذلك النوع من الأسئلة كثيرا في الاتحاد الأوروبي. أطلقت الـ«فاينانشيال تايمز» على ذلك، وهي محقة، «تحول تاريخي للسلطة. إنها خطوة كبيرة من أوروبا دول الأمم إلى الدولة الأوروبية. فلماذا إذن يندم الفائز عليه؟ لأنها لحظة قاهرة قد تؤدي إلى انقسام الاتحاد».

الدستور الأوروبي في حالة حركة مستمرة، وأحيانا تعيد الحكومات صياغة القواعد رسميا بطرق لا تفهمها تماما وتبقى في معظم الأحوال بلا دليل. ويبدو أن حالات الفشل المتسلسلة نتيجة هذا الأسلوب من الابتكار ومنها نظام عملة اليورو الكارثي لا تشكل فرقا، كما أن الناخبين لا يؤملون في شيء أيضا. وبلغ الدعم الذي تحظى به الأحزاب المعادية للاتحاد الأوروبي معدلات عالية جديدة، ولكن بحساب ربع الأصوات فقط (بنسبة تصويت بلغت 43 في المائة). ويصف من يهللون لانقلاب البرلمان هذا بالنصر للديمقراطية الشعبية.

وستكون هناك في ما بعد محاولة للمصالحة. وقال كاميرون إنه سيعمل مع جنكر (لن يكون له كثير خيار). وقد يكون جنكر متسامحا كثيرا في انتصاره ومحترما لتحفظات بريطانيا بشأن المزيد من التكامل السياسي. وستتحرك حكومات أوروبية أخرى للتخفيف من هزيمة كاميرون. وفي الواقع إن دولا قليلة هي التي تود أن ترى بريطانيا تترك الاتحاد، ومع ذلك فإن منطق خروج بريطانيا من الاتحاد يبدو من الصعب مقاومته، فالاتحاد الأوروبي مكرس مؤسسيا لفكرة الاتحاد الأقرب، بغض النظر عما يريده مواطنوه بالفعل. وخدعت بريطانيا نفسها لفترة طويلة بأن من الممكن أن يتغير ذلك. وحتى الآن يحاول كاميرون أن يقنع بإمكانية ذلك وأن بإمكان المملكة المتحدة إدارة العملية. يكفي ما حدث حتى الآن.

والبديل للاتحاد الأقرب أو الخروج الكامل لبريطانيا هو التفاوض على وضع جديد شبه منفصل. ولحسن حظ المملكة المتحدة أنها توقعت أصلا هذا المسار بوقوفها بعيدا عن مشروع اليورو المشؤوم. وعلى كاميرون بدلا من محاولة إقناع أوروبا بأكملها بتغيير مسارها أن يركز الآن على تطوير وضع شراكة أكثر شمولا، وسيكون ذلك أفضل لكل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بدلا عن الطلاق المباشر، على الرغم من أنه قد يكون على كاميرون التهديد بالانفصال التام وأن يكون مستعدا للقيام بذلك حتى تسير بقية أوروبا.

وستكون تلك مقامرة كبيرة، ولا شك أن المملكة المتحدة قد تزدهر كشريك مقرب من الاتحاد الأوروبي في منطقة تجارة حرة أقوى، ولكنها ستدفع ثمنا معجزا إن تركت الاتحاد في حالة غضب وعانت ردود فعل ضد سياستها التجارية والقضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك. إذا كانت حكومة المملكة المتحدة مستعدة لمواجهة تلك المخاطرة، فلن تكون الهزيمة التي منيت بها قبل أيام هي الأخيرة بالتأكيد.

ظل البريطانيون الذين يدعمون المشروع الأوروبي ينادون لسنوات بأن مصالح البلد ستحظى بأفضل خدمة عن طريق الانخراط التام في الاتحاد الأوروبي، من أجل توجيهه وتحسينه. وكان ذلك من الغرور والسذاجة في آن، من الغرور لأنه افترض أن من حق المملكة المتحدة إشهار سلطة غير متكافئة، ومن السذاجة لأنه افترض أن بقية دول الاتحاد الأوروبي ستسمح بذلك. ويجب التخلي عن ذلك الوهم الآن.

ولا يعني هذا تبني الفكرة التي تساوي الوهم، وهي أن بإمكان بريطانيا أن تكون على شروط غير ودية مع بقية دول الاتحاد الأوروبي. تكلفة الانفصال الغاضب إن حدث ستكون هائلة. ويجب ألا يعني هذا تبني شوفينية ورهاب الأجانب للمعادين للاتحاد الأوروبي. لكن الفجوة بين ما تريده المملكة المتحدة وما يتجه إليه الاتحاد الأوروبي كبيرة للغاية، وهذا هو الوقت الذي يجب الاعتراف فيه بأن الفجوة لن تجسر أبدا.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»