رأسمالية المحاسيب

TT

التشريح الاقتصادي الاجتماعي للواقع العربي اليوم حتما سيبدي الكثير من العلل، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مطمور، ولكنه بدأ في البروز والظهور على السطح. أغلب الحراك المعارض الموجود اليوم على الساحة السياسية في العالم العربي ينتمي إلى تيارات ما بات يعرف بالإسلام السياسي، وعادة ما تقدم هذه الجماعات أطروحات لوجهة نظرها فيما يجب عمله لحل مشاكل المنطقة الاقتصادية وإيجاد البدائل التي ستحقق التسوية والعدالة الاجتماعية بأشكالها المطلوبة.

ولكن واقع الأمر أن هذه الجماعات في تركيبتها تمارس تماما الأدوار التي تشتكي منها بحق الأنظمة الحاكمة التي تعارضها وتقف ضدها، فالجماعات الكبرى من هذه الفصائل لها تركيبتها الاقتصادية «الهرمية» الواضحة لمن يعرفها، وهي تشكل مصالح اقتصادية واضحة ومؤثرة (سواء حين وصولهم للسلطة أو وهم خارج السلطة) وهذه المصالح الاقتصادية رغم الشعارات المرفوعة التي تنادي بالعدالة الاجتماعية هي في الواقع الحقيقي تخضع لعوامل وقوى السوق وحرياته التي تأتي معها.

ولقد اتفق علماء الاجتماع والاقتصاد حول العالم على وصف الأنظمة الاقتصادية بأنها هي التي تكون الدولة والنظام الحاكم فيها خاضعة تماما لمجموعة دقيقة وبسيطة من أصحاب النفوذ والمصالح، وهم يطوعون علاقاتهم وأموالهم لتوليد مكانة اقتصادية خاصة، وليس عبر تكوين المال من قنوات تنموية وإنتاجية واضحة الملامح في قطاعات صريحة، مثل الزراعة والصناعة والتجارة، ولكن من موازين قوى مؤثرة كونت لها حفنات من الشخصيات كانت لها جيوش من المحاسيب والأنصار في دوائر صناعة القرار والتأثير عليه لصالحهم، وبالتالي فإن الثروات والعوائد المالية التي تكونها هذه المجاميع والشخصيات لا تتأتى من أصول اقتصادية متعارف عليها، ولكن عن طريق علاقاتهم الشخصية ما بين أصحاب نفوذ وشركات عالمية، وهي ثروات تتكون من سمسرة وعملات وساطة والمبالغ المحققة هائلة ولا تأتي بسبب أي إنتاجية.

وهذه النوعية من صناعة الثروات تكاد تكون منتشرة ومحصورة بشكل أساسي في دول العالم الثالث، ولا يمكن مراقبة هذه الظاهرة الفجة أو متابعتها في الدول الصناعية من العالم المتطور؛ لأن هذه الدول الصناعية لها منظومة اقتصادية واضحة الأطر والملامح معتمدة على نماذج الإنتاج الصناعي والخدمي والتجاري والزراعي، وتنمو هذه المجتمعات بشكل مطرد دون قفزات وتقلبات غريبة، فنهب الأموال لا يكون ممكنا إلا في المجتمعات البدائية والهشة غير الخاضعة للرقابة والمحاسبة والشفافية والأطر التشريعية التي تحدد منظومة الثواب والعقاب، بالتالي يكون من المقبول السماح بتكوين الثراء على التجرؤ على السطو على الممتلكات العامة من أموال وأراض بوضع اليد عليها أو الحصول والاستحواذ عليها بأدنى الأثمان، كل هذا المشهد البائس الحزين يصور بمفهوم «رأسمالية المحاسيب».

وفي الغرب هناك مصطلح أدق له اسمه Crony Capitalism الكل يقع فيها والكل يساهم بإيجاد حفنة من المحاسيب والأنصار لإفادتهم حتى يستفيد؛ لأن هذه المنظومة لا تحيا إلا بإرضاء أهل الثقة وتكوين القاعدة المتينة لهم الحامية للمصالح، ولتحقيق مفهوم حماية المصالح لا بد من توفير فرص الإفادة الاقتصادية لأقصى درجة وغض النظر عن أي «تجاوزات»، عملا بـ«ليس بين الخيرين حساب» و«أطعم الفم تستحيي العين» كما يقول المثل الشعبي المأثور.

مناخ مسموم وملغم، تعاني منه المنطقة بالعموم وعلله معروفة وأسبابه لم تعد سرا، ولكن ادعاء العفة والمكانة المميزة فقط لأن المتحدث يقف في الخانة المقابلة، لا يجعل الحديث أكثر جدية ولا أهم ولا أكثر جدارة ومصداقية؛ فالوقائع تؤكد أن الكل مدان بهذا الهم والكل مساهم فيه والعلل متشابكة لأن المرض قديم ومستشرٍ. فالمجتمعات لا تحكم بالقانون تحت ميزان العدل، ولكن تسيطر عليها تقاليد وأعراف هي مليئة بالتمييز والعنصرية والتطرف، تشكل تربة خصبة لإفادة مجاميع على حساب مجاميع أخرى مما يحولها إلى مرتع للمحاسيب والأنصار بامتياز.

هذه المسألة من أهم المسائل التي تشكل هويات المجتمعات الرخوة والهشة، وهي من أكبر التحديات التي بحاجة إلى أن تواجه وتعالج، فلا يستطيع ادعاء العفة والترفع عن البحث فيها.