على حماس اتخاذ خطوات عملية نحو بناء نواة الدولة الفلسطينية

TT

وجه محمود عباس، الرئيس الفلسطيني المعتدل أحيانا، والزعيم الفلسطيني غير المؤثر في أحيان أخرى، سؤالا إلى خصومه في حماس، وهو السؤال ذاته الذي طرحه كثير من الحائرين: «ما الذي تعتزمون تحقيقه من خلال إطلاق الصواريخ؟».

وكانت حركة حماس المتمركزة في غزة قد أطلقت أخيرا أكثر من 500 صاروخ على البلدات والمدن الإسرائيلية، مما أدى إلى ترويع المواطنين، رغم أنها تسببت في خسائر طفيفة، وذلك في جزء كبير منه يرجع إلى حماية إسرائيل بواسطة قبة حديدية من النظم المضادة للصواريخ.

وردا على تلك الصواريخ المنطلقة بلا تمييز، قصفت إسرائيل أهدافا عدة في قطاع غزة، مما أدى إلى مقتل 100 شخص حتى الآن. ومقارنة بمعدلات الوفيات العنيفة في أجزاء أخرى من الشرق الأوسط، فإن الرقم لا يزال صغيرا (فلقد قتل أكثر من 170 ألف شخص في الحرب الأهلية السورية حتى تاريخه). غير أن الرقم المذكور يعد كبيرا بما يكفي ليشير إلى إجابة السؤال الذي طرحه الرئيس محمود عباس: إن حماس تريد من إسرائيل أن تقتل أكبر عدد من الفلسطينيين.

يمثل القتلى الفلسطينيون انتصارا دعائيا حاسما بالنسبة لبعض من حركة حماس. إنه منهج منحرف، غير أنه صحيح، وهو يمثل كذلك أفضل التفسيرات الممكنة لسلوك حماس، حيث إن الحركة لا تمتلك أي هدف استراتيجي يقبله العقل هناك.

يمتلك الرجال الذين يديرون حماس، من المهندسين والأطباء والمحامين بالممارسة، قدرا من الذكاء، يكفي لإدراك ذلك على الرغم من رغبتهم في إبادة الدولة اليهودية واستبدال دولة الإخوان المسلمين بها (حيث تعد حماس الفرع الفلسطيني لـ«الإخوان»)، غير أنهم ليسوا في موضع يمكنهم من تحقيق ذلك. تعد حماس جماعة ضعيفة عسكريا، وبلا أصدقاء تقريبا، وهي تعوض ذلك بإطلاق الصواريخ على المدنيين في دولة قوية مجاورة.

يمتلك الجيش الإسرائيلي قدرات عملياتية للسيطرة على كامل قطاع غزة في يوم، إذا ما أراد ذلك، غير أنه يظل مقيدا بضغوط المجتمع الدولي، وبأخلاقياته الخاصة وبإدراكه أن مقتل الفلسطينيين الأبرياء لا يصب في مصلحته السياسية. أما الرجال الذين يديرون حماس - أولئك المختبئون في الملاجئ تحت الأرض، أولئك الذين يرسلون أطفال الشعب والانتحاريين إلى حتفهم - يدركون أن حملتهم الحالية لن تؤدي إلى إنهاء شرعية إسرائيل بصفتها دولة.

لقد أصابني الذهول، خلال الأيام القليلة الماضية، بسبب عدم الاكتراث الدولي لما يجري في غزة. ربما جرى تخفيض حدة الصراع الحالي إلى استعراض شرق أوسطي جانبي مقارنة بالنوازل القاسية في العراق وسوريا.. حتى إن أكثر الحكومات الأوروبية نزوعا للتسوية تعرف أن إسرائيل تسعى لملاحقة الأشخاص الذين يحاولون قتل مواطنيها. وبصرف النظر عن الأسباب، تبدو الضغوط التي تتعرض لها إسرائيل أقل في حدتها من المعتاد للتقليص من حملتها الحالية.

ليس من شك في أن حماس يمكنها حماية أرواح الفلسطينيين من خلال وقف حملتها الحالية الرامية إلى اقتناص حياة الإسرائيليين. القرار قرار حماس، كما صرح بذلك الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أمس: «إننا نواجه خطر التصعيد المطلق من جانب إسرائيل وغزة، مع التهديد بشن هجوم بري لا يزال ملموسا، ويسهل توقيه إذا ما أوقفت حماس إطلاق صواريخها».

أدرك أن تلك الحملة، وسط جولات الحرب غير المنتهية بين إسرائيل وغزة، ليست إلا، من نواح عدة، خطأ. لم تكن إسرائيل مهتمة بالمواجهة المفتوحة مع حماس في الوقت الراهن، وحماس من جهتها، تحاول إدارة التهديد لبسط سيطرتها على غزة من خلال – صدق أو لا تصدق – جماعات أكثر تطرفا وعدمية منها ذاتها، وهي على وجه الخصوص غير مهيأة أبدا لمواجهة إسرائيل.

إن سياسات الحركة تصيبك بالذهول والرعب في آن واحد، غير أن ما يثير اهتمامي أكثر هو حالة المغايرة للواقع: ماذا لو، منذ تسع سنوات مضت حينما انسحبت إسرائيل بجنودها ومستوطنيها من غزة، كان الفلسطينيون قد تخيروا خيارا آخر.. ماذا لو كانوا اختاروا بناء نواة الدولة، بدلا من سلسلة مصانع الصواريخ تحت الأرض؟

وتنشأ هذه الفكرة من واقع شيء ما كان قد أخبرني به رجلان من قادة أكراد العراق يوما ما. كردستان العراق اليوم على أعتاب الاستقلال. ومثل الفلسطينيين، فالأكراد يستحقون دولة لهم. وعلى العكس من معظم القيادة الفلسطينية، فقد لعب الأكراد لعبة طويلة وذكية أوصلتهم إلى الحرية.

هذا ما أخبرني به برهم صالح، رئيس الوزراء الأسبق في حكومة إقليم كردستان، منذ سنوات عدة: «قارن بيننا وبين حركات التحرر الأخرى حول العالم. لقد أصبحنا ناضجين جدا. نحن لا نشارك في الإرهاب. ولا نتغاضى عن الأفكار القومية المتطرفة التي تلقي بأعباء ثقيلة على شعبنا. رجاء مقارنة ما حققناه في مناطق السلطة الوطنية في كردستان بالسلطة الوطنية الفلسطينية. لقد أمضينا السنوات العشر الأخيرة في بناء مجتمع علماني، وديمقراطي، ومدني. ما الذي بناه الفلسطينيون؟».

وكذلك أخبرني مسعود بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان، ذات مرة: «كانت لدينا الفرصة سانحة لاستخدام الإرهاب ضد بغداد، غير أننا اخترنا مسارا آخر».

في عام 2005، كان يمكن للفلسطينيين في غزة، وبعيدا عن الاحتلال الإسرائيلي، أن يتعلموا درسا من الأكراد، والعمل على إنشاء البنية التحتية الضرورية للحرية اللاحقة. تقع غزة مركزيا بين نظامين اقتصاديين كبيرين، لدى إسرائيل ومصر. وتقع أوروبا فقط عبر البحر المتوسط. كان يسهل على غزة جذب مليارات الدولارات في صورة مساعدات اقتصادية.

لم يفرض الإسرائيليون الحصار على غزة بصورة مباشرة، بل جاء الحصار لاحقا، عندما صار واضحا أن الفصائل الفلسطينية كانت تأخذ بعين الاعتبار استخدام الإقليم المتحرر حديثا نقطة انطلاق لشن مزيد من الهجمات. وفي الأيام التي تلت الانسحاب، شجع الإسرائيليون التنمية في غزة، حيث دفعت مجموعة من الجهات الأميركية اليهودية المانحة 14 مليون دولار مقابل صوبات حرارية تركها المستوطنون اليهود خلفهم، وتبرعوا بها إلى السلطة الفلسطينية. تعرضت تلك الصوبات للنهب والتدمير، وهي تمثل حتى يومنا هذا مثالا واضحا على فرص غزة الضائعة.

إذا تمكنت غزة، على الرغم من كل الصعوبات، وعلى الرغم من كل المعوقات المفروضة عليها من إسرائيل ومصر، من اتخاذ خطوات عملية نحو بناء نواة الدولة، فأعتقد أن إسرائيل سرعان ما ستتحرك لإخلاء أجزاء كبيرة من الضفة الغربية أيضا.. لكن ما تريده حماس ليس دولة على جزء من أرض فلسطين.. إن ما تريده هو القضاء على إسرائيل.. ولن تستطيع تحقيق ذلك.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»