قرار «توريطي» جاء استجابة لحسابات «إخوانية» وإيرانية!

TT

ثبت على نحو قاطع، بعد مبادرة وقف إطلاق النار التي تقدمت بها مصر، أن أحد أهداف هذه الحرب التي استدرجتها حركة «حماس» استدراجا، واستجاب لها بنيامين نتنياهو وعلى الفور لأنه كان في انتظارها، هو تجاوز الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية، وهو أيضا القفز من فوق حكومة المصالحة الوطنية، وهو إبراز تحالف الإخوان المسلمين وقطر ورجب طيب أردوغان، وهنا فإن ما أثار الكثير من التساؤلات أن المتحدثين باسم حركة المقاومة الإسلامية لم يُخفوا أن استهداف مصر كان سببا رئيسا لهذه العملية التي ثبت وستثبت الأيام أكثر وأكثر أنها كانت «توريطية»، وأن الذين خططوا لها ووقفوا وراءها أرادوا أيضا «فرط» المعادلة الفلسطينية الحالية.

ولهذا فإنه لم يكن أمام الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، إزاء انسداد الأفق وإصرار «حماس» على خطوة «التوريط» هذه التي أقدمت عليها استجابة لحسابات إيرانية و«إخوانية» واضحة كل الوضوح، إلا أن يقدم على ما بقي يلوح به وهو الطلب من الأمم المتحدة توفير حماية دولية للفلسطينيين والأراضي الفلسطينية، وهذا في حقيقة الأمر يبدو مستحيلا في ظل الموقف الأميركي المؤيد لإسرائيل، الذي هو موقف الدول الأوروبية بصورة عامة، وبخاصة ألمانيا الاتحادية.

ما كان «أبو مازن» يريد أن تقْدم «حماس» على ما أقدمت عليه وبخاصة في هذه الفترة بالذات فالوضع الدولي، بعد انسداد أفق عملية السلام، بات أقرب إلى وجهة النظر الفلسطينية، وكل هذا بينما العالم كله قد وصل إلى حدِّ «القرف» من إسرائيل وألاعيبها، ومن هذه الحكومة المتطرفة التي يرأسها بنيامين نتنياهو، وذلك في حين أن الوضع العربي يمر الآن بمرحلة مخاضٍ عسيرة غير معروف ماذا ستكون النهاية التي ستنتهي إليها.

والمستغرب فعلا أن «حماس»، وسواءً أكانت هي من نفَّذ عملية اختطاف الشبان الإسرائيليين الثلاثة وقتلهم أمْ لا، لم تدرك أهمية الظروف التي استجدت، بعد مقتل الطِّفل الفلسطيني محمد أبو خضير من بلدة شعفاط العربية إلى الشمال الغربي من القدس، وإحراقه والتبشيع بجسده من قبل متطرفين يهود، حيث ظهرت بدايات صحوة أميركية وأوروبية كان بالإمكان أن تغير اتجاه مسار المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية المتوقفة، وإعطاء الأولوية القصوى للقضية الرئيسة التي هي ضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من كل الأراضي التي احتلت في الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967، وإقامة دولة فلسطين المنشودة وعاصمتها القدس الشرقية.

لقد أصبح بنيامين نتنياهو، بعد مقتل الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير بالصورة الهمجية التي قتل بها، يعيش أزمة خانقة وكان من المتوقع أنْ يبادر إلى استئناف المفاوضات المتوقفة وأن يوافق على ما أصبح يشكل قناعة كونية وعلى ما بقي يأتي ويعود به وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في زياراته وجولاته المكوكية غير المسبوقة لا في عهد هذه الإدارة، إدارة باراك أوباما، ولا في عهد إدارة بيل كلينتون الذي كان أكثر وضوحا وأشد حزما من الرئيس الحالي، الذي لم يثْبُت على أي موقف إنْ بالنسبة للقضية الفلسطينية، وإن بالنسبة لباقي قضايا الشرق الأوسط التي غدت مأساوية ومتفجرة.

إنَّ هذه مسألة، وأما المسألة الأخرى، التي هي بمستوى أهمية المسألة الأولى وربما أكثر، فهي أنَّ أبو مازن، عندما ذهب إلى خطوة «المصالحة» مع حركة «حماس»، كان يريد إنهاء انقلاب عام 2007، الذي قامت به حركة المقاومة الإسلامية بدعم من «الإخوان المسلمين» وإيران، من التاريخ الفلسطيني كله، وكان يريد أيضا تجريد الإسرائيليين من حجة أنهم لا يجدون الطرف الفلسطيني الذي من الممكن أن يفاوضوه.

وحقيقة أن الرئيس محمود عباس (أبو مازن) كان يعرف أن «حماس» قد اندفعت إلى المصالحة الوطنية مع «فتح» ومع منظمة التحرير، بعد مراوحة استمرت لأكثر من خمسة وعشرين عاما، لأنها وجدت نفسها، بعد انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر، معزولة ومحاصرة وغير قادرة على تحمُّل أعباء قطاع غزة المالية منها والسياسية، ولأنها أيضا أرادت هذه المصالحة لأخذ المزيد من الوقت لتستكمل خطوات العودة إلى الأحضان الإيرانية، ولتتمكن من تحسين موقعها في المعادلة الإقليمية.

إن أبو مازن كان بالتأكيد يعرف هذا وكان متيقِّنا منه، لكنه ذهب إلى هذه الخطوة التي كانت، ولا تزال، في الاتجاه الصحيح، لأنه يريد فعلا القضاء على الظاهرة الانقلابية في المسيرة الفلسطينية، ولأنه يريد القضاء على حجة بنيامين القائلة: «إنه لا يجد الفلسطيني الذي من الممكن أن يفاوضه».. هل هو «فتح» هل هو منظمة التحرير.. هل هو حركة المقاومة الإسلامية، أم منظمة الجهاد الإسلامي وباقي «التنظيمات الإرهابية»؟!!.

وهكذا وإذا أردنا مواجهة سطوة اللحظة الراهنة وابتزازها، فإنه لا بد من قول الحقيقة، والحقيقة هي أن حركة «حماس» حتى بعد إقدامها على خطوة «المصالحة الوطنية»، فإنها لم تتخلَّ عن قناعاتها بأنها الأحق، من «فتح» ومن منظمة التحرير ومن السلطة الوطنية، بأن تكون صاحبة القرار في الساحة الفلسطينية، وأنه عليها وعلى الرغم من هذه «المصالحة الوطنية» القصيرة العمر أن تميِّز نفسها وأن تُظْهِرَ بالأفعال قبل الأقوال أنها هي «المقاومة»، وأن «المقاومة» هي، وأنه بالتالي عليها أنْ تبادر لـ«توريط» محمود عباس (أبو مازن) في حرب جديدة مع إسرائيل على غرار حروبها السابقة، حرب عام 2008 - 2009 وحرب عام 2012، وأنه عليها أيضا ومن خلال هذه الحرب أن تفرض نفسها على مصر من موقع القوة كما أنه عليها أن تسلِّف إيران موقفا ساخنا ليصبح بالإمكان إنعاش «فسطاط الممانعة والمقاومة» سيئ الصيت والسمعة.

ويقينا وهذا ليس تجنيا ولا افتراء أنَّ هذا القرار «التوريطي»، الذي اتخذته «حماس»، وكانت إسرائيل تنتظره على أحرّ من الجمر لتقوم بكل ما قامت به، كان هدفه نسف العملية السلمية المستندة إلى حلِّ: «دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية إلى جانب الدولة الإسرائيلية»، لتعود بالأمور إلى المربع الأول، وهنا فإنه لا بد من التأكيد على أن المسألة بالنسبة لحركة المقاومة الإسلامية ليست مسألة خيانة أو تآمر لا سمح الله، وإنما مسألة تقديرات خاطئة ومسألة أنها تسعى لتُثْبت أنها هي المقاومة، وأنها حتى بالتحاقها بـ«المصالحة الوطنية» لم تتخلَّ عن خيار المقاومة، وأنها بالتالي هي الأحق بأن تكون صاحبة القرار في الساحة الفلسطينية، لأن منظمة التحرير، حسب رأيها، لم تعد الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

والظاهر أن «حماس» بلجوئها إلى التصعيد العسكري بعد جريمة مقتل الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير، أرادت أن تكرر اللعبة القديمة إياها، حيث بعد كل جولة من جولات الحرب والاقتتال كانت تدَّعي على غرار ما تفعلهُ الآن أنها قد حققت التوازن العسكري مع إسرائيل، وأن شرطها للقبول بوقف إطلاق النار، حسب المبادرة المصرية، هو الاعتراف بهذا التوازن، وكل هذا لتفرض نفسها على أنها اللاعب الرئيس على الساحة الفلسطينية، وأنها الرقم الأساسي في المعادلة الشرق أوسطية ولتفرض نفسها أيضا على النظام المصري الجديد وهذا، كما هو واضح، لن يكون ولن يحصل، وذلك لأن حصوله يعني معادلات جديدة في هذه المنطقة غير المعادلات الحالية، ويعني فرض الإخوان المسلمين مجددا على الحالة السياسية المصرية التي استجدت بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي لا شك في أنه بما قام به قد أنقذ مصر، وأنقذ معها كل هذه المنطقة.

ويبقى في النهاية أنه من حق الشعب الفلسطيني إنْ في الداخل، وإنْ في الخارج، وإنْ في كل ركن من أركان الكرة الأرضية، أن يسأل «حماس» عمَّا إذا كانت هذه المناورة «التوريطية» الرديئة تستحق تقديم كل هذه «الأرقام»!! من الشهداء والجرحى، وتستحق أنْ تدمَّر غزة كل هذا التدمير الهمجي.. ثم إلى متى يبقى هذا الشعب يدفع أثمانا مكلفة وغالية لمناورات وألاعيب المحاور العربية والإقليمية.. إلى متى.. إلى متى؟!.