العودة إلى التاريخ!

TT

في رمضان، الشهر الفضيل، الشهر الكريم، الشهر المبارك، وحالة الانفصام العربي في أوجها؛ دماء تسيل من ضحايا أبرياء يقتلون على أيدي قوات نظام بشار الأسد وإسرائيل في سوريا وغزة؛ حالة من التوحش استشرت في ليبيا على أيدي قوات مسلحة خارجة عن القانون، والدولة تقتل كل من يعترضها ويفعلون كل ذلك باسم الدين الحنيف؛ نظام حاكم في العراق يسعى للبقاء على كرسي السلطة حتى لو تحولت بلاده إلى ما يشبه مربعات الشطرنج بسبب التقسيم الذي دمر جغرافية البلاد، وقبل ذلك أودى بآدمية المواطن فيها.

شاشات التلفزيون تعكس هذا النقيض العظيم، قنوات تقدم الترفيه والتسلية والتغييب بجرعات مكثفة، ونشرات أخبار تعكس آراء وأهواء ومواقف أكثر مما هي تنقل الخبر بواقعية وموضوعية وحيادية، محطات وقنوات تطلق على نفسها اسم قنوات دينية وهي لا تقدم إلا جرعات مكثفة من الكراهية للآخر والرفض له والتحريض المتواصل حتى القضاء عليه، وهو تطور طبيعي جدا لخطاب غاب عنه العقل وزادت المساحة السوداوية في القلب بشكل مذهل وهائل.

كنت في حوار سريع مع أحد رجال الأعمال الأوروبيين، في لقاء جمعني معه خلال مناسبة عالمية تعقد سنويا في إحدى عواصم الغرب. سألني الرجل بنبرة لا تخلو من الاستغراب والدهشة في آن مع جدية حقيقية كذلك: لماذا أنتم منغمسون في الدم؟ إذا لم يعتد عليكم أحد جمعتم همتكم لتعتدوا على بعضكم بعضا؟ كانت إسرائيل يوما هي عدوكم الأوحد المستحق، واليوم أصبح لكم كم مهول من الأعداء بينكم وبين أنفسكم. تحول حجم الكراهية والحقد المخزنة في صدوركم تجاه بعضكم البعض إلى شيء أعظم من درجة العداء لإسرائيل. خالفته سريعا وقلت له: أنا لا أوافقك القول، فأنا لا أزال وغيري أيضا لا يزال يعتقد ويجزم أن إسرائيل هي العدو الأول المستحق، فهي دولة معتدية وغاصبة ومعتدية بامتياز غير قابل للجدال. إلا أن سؤال الرجل استفزني جدا وجعلني أفكر وأقلب الفكرة في رأسي.

الخلافات المذهبية والإثنية والعرقية والدينية والطائفية (أيا كانت مسمياتها) هي لم تكن يوما حكرا على منطقة العالم العربي، وهناك كثير من المناطق حول العالم التي شهدت حالات تعكس هذا النوع من التوتر الذي نقصده، ولكن انتقلت هذه الخلافات من حالات العنف والقتل والدماء والحروب إلى داخل رحم النظام والقانون والعدل والمواطنة، حتى دول القارة السوداء في أفريقيا والتي كانت دوما مثالا للتخلف وللعنف المسلح الأهلي والاقتتال البيني المدمر هي الأخرى تمكنت بحكمة وعقلانية من الانتقال من حال الفوضى إلى حال الاستقرار. وها هي تواجه مجاميع موتورة مارقة خارجة عن القانون مثل «بوكو حرام» في نيجيريا والشباب في الصومال والجهاد في مالي والجيش المسيحي في أوغندا وتتعامل معهم على أنهم مجرمون وليسوا حركات سياسية من الممكن الحوار معها ولا أخذها بأي نوع من الاستحقاق ولا الجدارة ولا المصداقية.

العرب لا يزالون في حالة «غيبة» كبرى لم يتعرفوا بعد على الدولة المدنية والحضارة التي تأتي معها، فإذا كانوا فرحين بأنهم لديهم قوانين مرور وأنظمة تعليم ودساتير فهي لا قيمة لها من دون الحس والالتزام الأخلاقي والإنساني الذي يأتي تباعا معها، لأنه من دون ذلك ستكون المسألة ما هي إلا تنظير عقيم وشتان الفرق بين من يتحدث وبين من يطبق ما يقول.

وصلنا إلى الجانب النظري من المدنية وهي مجرد كلمات على الورق، المشوار الطويل المتبقي هو تحويل كل ذلك إلى حالة حضارية إنسانية مستدامة، وقتها نكون دخلنا مجددا للتاريخ الذي خرجنا منه بأيدينا.