هل تنسحب «دولة الخلافة» من الموصل؟

TT

من بين ما دفعني إلى المعارضة العلنية لنظام صدام حسين قبل نحو عشرين عاما، هو إدراكي لحجم المآسي التي تترتب على قراءاته الكارثية، وعدم قدرته على قراءة المواقف واستنتاج الاحتمالات ضمن السياقات المنطقية. وها هو التاريخ يعيد نفسه في خطاب عزة الدوري نائب صدام، بإشادته بتنظيم القاعدة و«دولة الخلافة» تحديا للموقف الدولي، وهو ما جعلني أفكر في وجود مؤامرة عابرة للمحيطات، أدت إلى فيلم سقوط الموصل، الذي تعدى إخراجه اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وتداخلت عناصر تحليل هذه الإشادة مع تصريح نشر في جريدة «الشرق الأوسط» لناطق بلسان «الجيش الإسلامي» يقول فيه إن «داعش» تحرر المناطق وتسلمها إليهم، ثم يأتي تصريح لسياسي عراقي يشير إلى أن «دولة الخلافة» بدأت تنسحب من الموصل، وستسلم المدينة إلى «جيش الطريقة النقشبندية» التابع للدوري، تمهيدا لتسليمها إلى الإدارة الشرعية! ما يرفع حساسية محللي الأمن.

السياق المنطقي للأحداث والمواقف يثبت أن من السطحية مجرد التفكير في أن «دولة الخلافة» ستترك «كنز الموصل» الثمين بلا حرب، لما يمكن أن تقدمه الموصل إليها من مال وأشخاص ممن يمكن إغواء وإغراء بعضهم للتطوع مع الإرهابيين، فضلا عن تواصل الساحة من محافظة الرقة السورية إلى الموصل وديالى وصلاح الدين ومجاورة إقليم كردستان. وهذا لا ينفي نقل قسم من المسلحين من الموصل إلى الأنبار وتسريب بعضهم إلى حزام بغداد.

وطبقا للمعلومات التي تتسرب من الموصل، فإنه جرى تحديد 20 رمضان كآخر موعد لبيع الملابس النسائية «غير الشرعية»، والبدء بنصب لوحات أرقام سيارات جديدة، وإقامة «محاكم شرعية»، وفرض نظام جباية.. إلا أن الواقع الحالي لا يتطلب نشر عدد كبير من المسلحين في المدينة لعدم وجود تهديد أرضي في المرحلة الحالية، وهو ما خيل إلى البعض بأنه من بوادر انسحاب لن يكون جديا، حتى لو جرى استنساخ تجربة مسرحية موافقة صدام على الانسحاب من الكويت قبل بدء الحرب.

وبدل التفكير في جدلية الانسحاب، فإن أجهزة المخابرات لا بد أن تكون منهمكة في حساب الكيفية التي سيجري بموجبها احتواء المعدات العسكرية التي تم الاستيلاء عليها، وهو ما قد يظهر أثره على الساحتين السورية والعراقية، فتيسر القوات المدرعة مع توافر قدرة المناورة يتطلبان إجراءات تحسب غير عادية لوضع تدابير مجابهة، ولا يجوز افتراض غفلة الأجهزة عن هذا الموضوع، الذي لم يغب عن ذهن المتابعين من خارج مسارح العمليات، التي تحولت إلى مجال بحث للخبراء العسكريين.

وفي المجال العملياتي، لم يظهر حتى الآن قادة عسكريون من الجماعات المنخرطة في العمل، ومن يظهر من متحدثين فقد تأثيره نتيجة تكرار تهديدات وتعهدات باقتحام بغداد وغيرها، لم يثبت لهم صلة بما يجري على الأرض، بل تسببوا في زيادة الضغط على الناس في بغداد ومحيطها، وقد وردت استغاثات كثيرة من أهل محيط بغداد من أثر هذه التهديدات على وضعهم الأمني، وما يترتب عليها من إجراءات. فأحيانا تتخذ قوات الأمن تدابير معينة تحسبا لوجود خلايا معادية نائمة، فتحول المتحدثون إلى بلاء حقيقي على الناس الآمنين من سنة عرب بغداد.

الموقف العسكري لا يزال على ما كان عليه خلال الأسبوعين الأخيرين، وإن بغداد متحسبة (على ما يبدو) لاحتمالات التصعيد الأمني في حالة حدوث متغيرات سياسية، أصبحت احتمالات تحققها أكثر ترجيحا بسبب ضغوط متعددة الاتجاهات. وقد شكلت عملية التطوع التي استندت إلى فتوى المرجعية الشيعية محطة تحول كبيرة في تعزيز قدرة القوات البرية على تلافي النقص البشري في التشكيلات القتالية، ولم تعد الوحدات ومناطق العمليات تعاني نقصا في ملاكات الوحدات القتالية.

في المجال السياسي، ليس متوقعا حدوث متغيرات جوهرية على مستوى الكيانات والأفراد، فحتى تغيير الرؤساء لن ينسحب على المستويات المرتبطة بالكتل، وستحقق السياسة الداخلية نقلة معقولة على طريق إعادة العلاقات بين الفرق السياسية والتخفيف عن الشرائح المتضررة، إلا أن العلاقة بين المركز والإقليم الكردي ستتعرض للمزيد من الهزات، إذا لم تتراجع رئاسة الإقليم عن قرار اعتبار يوم بدء أحداث الموصل فاصلا في فرض معادلات النقاط التي كانت موضع خلاف، خصوصا ما يتعلق بمدينة كركوك النفطية وغيرها. أما الأحاديث عن التقسيم ففيها نسج من الحسابات الخاطئة.