روح الفكاهة عند الفراعنة (3)

TT

من الظلم ألا يجد القارئ العربي في أيامنا هذة ما يشجعه على شراء جريدة أو مشاهدة برامج ونشرات أخبار تعرضها شاشات قنوات عربية لا يعرف لها عدد؛ أو حتى فتح المذياع وقضاء وقت ممتع مع ما يأتيه عبر الأثير من برامج ثقافية فيها متعة للعقل وترويح للنفس! أصبحنا نخاف حتى من نشرة الأخبار لهول ما سنسمع وبشاعة ما سيعرض.. وللأسف أصبح السباق بين وسائل الإعلام اليوم في أيهما الأقدر على الغم والنكد والكأبة! ونسي الناس أنه حتى في زمن الحروب والاحتلال كانت شعوبنا لا تمل ولا تكل في أن تجد ما يسري عنها أو يضحكها حتى ولو كان بالسخرية من المحتل أو الغازي! وكانت صحف ومجلات الفكاهة هي الأكثر رواجا في أوقات الحروب والمصائب. وبنفس المنطق كانت الفكاهة عند المصري القديم تتجلى في أبهى صورها في أوقات الشدة والعسره.. فعندما تكاسل المجتمع وتغير حاله من حالة الكد والعمل الى الخمول والتواكل نرى فناناً عبقرياً يرسم لوحة كاريكاتيرية يصور فيها فرس نهر مكتنزا نسي طبيعته ومكانته بين عالم الحيوان وراح يتسلق شجرة لا لشيء خطير بل لكي يستولي على عش طائر بائس.. ليس هذا فقط بل إن هذا الطائر، وهو يشبه الغراب، بدل من أن نراه محلقاً في السماء لينقض على فرس النهر لكي يحمي عشه؛ نجده على غير المتوقع يحضر سلما لكى يصعد عليه حيث مكان فرس النهر والعش لكي يثنيه عن فعله! وهكذا عبر الفنان المصري القديم عن تغير أحوال المجتمع ونتيجة تخليه عن عاداته وتقاليده! والأمثال المصرية لا تزال تعبر عن نفس روح الفكاهة عند الفراعنة، فمثلاً يقول المثل «لما الحال يتبدل.. القرد يطبل»، وكأن من قال هذا المثل الشعبي قد رأى ما رسمه الفنان الفرعوني من رسم كاريكاتيري معبر عن تغير الأحوال في المجتمع فنرى قرداً وقف يطبل؛ بينما القراداتي أخذ يتمايل ويرقص.

وعلى جدران المقابر الفرعونية كانت روح السخرية تظهر فى المناظر المصورة.. فهذا فنان يسخر من هيئة رئيس العمال أو رئيس الرعاة فيصوره سميناً غير قادر على النهوض؛ يؤتى اليه بالطعام والشراب. ومنظر آخر يصور فتى يأتي مسرعا لراع يقوم بحلب بقرة وقد أمسك الفتى بإناء يطلب من الراعي أن يملأه له باللبن ويقول له: «أسرع قبل أن يرانا صاحب المزرعة!». ومنظر بديع يصور سوقاً مصرياً صاخباً؛ وقد انتهز صبى صغير انشغال البائع فقام بسرقة ثمرة تين؛ ولكن لسوء حظه رأه قرد يافع فانقض على ساق الفتى الذي راعه الموقف فأخذ يستغيث بصاحب القرد أن يبعده عنه.. فهل قصد الفنان السخرية من أن حسن الخُلق قد يكون عند قرد ولا يكون عند صبي له عقل يميز؟ أم تراه يسخر من قراداتي أحسن تربية القرد بينما هناك من لم يحسنوا تربية ابنهم؟ ليس ضرورياً معرفة السبب الحقيقي وراء ما حفظه الفن المصري القديم من روح خلاقة تطوق دائماً الى البهجة والسعادة ..

الأمل في حياة سعيدة ليس عيباً أو ذنباً، بل هو أمر أن نذكر نعم الله علينا ونشكره سبحانه وتعالى عليها. وليكن عندنا إيمان قاطع بأن غداً ستغرد العصافير فإذا اشتد الغم واستحكم الحزن فليكن الإيمان بأنه بعد غد ستغرد العصافير.