مدن الصيف: إيطالي يبني الكرملين

TT

دلفتُ إلى الساحة الحمراء مشيا. إنها مجد الرائي في موسكو أيا كانت هوية الحاكم ومساعديه في جوارها الهائل؛ الكرملين. ولم تسمَّ باللون الأحمر لأنه خضاب الثورة البلشفية ومجد فلاديمير إيليتش، بل سُمّيَت قبله كذلك، لأن الأحمر هو لون الجمال عند السلافيين، كما كان لون شقائق النعمان عند العرب؛ إذ يهطل المطر الموعود فجأة ويوقظ الصحراء، فتهب بكل ألوانها، طاغيا عليها الأحمر بحدته، لفترة عابرة، وما تلبث البادية أن تعود من اليقظ إلى القيظ.

قبل «ثورة أكتوبر المجيدة» لم تكن الساحة الحمراء ملقى التائهين والفضوليين كما هي اليوم.. كانت مزدحمة أشبه بساحات مراكش إلا من الحواة.. سوق قديمة تعرض فيها البضائع والخضار والثمار، ويؤدي الغجر رقصاتهم على أنغام الربابة الحزينة يتيمة الوتر، ويرقص أصحاب الدببة مع دببتهم المروَّضة، كما في شوارع بيروت أيام طفولتنا؛ إذ يضرب الدبّاب على دفّه ويقدم الدّب المطيع العرض، مقلدا «ستي الختيارة» كيف تجلس، أو «جدي الختيار» كيف يرقص.

وكان في السوق بهلوانيون يشركون المتفرجين في ألاعيبهم المثيرة، وباعة بصل وثوم وملفوف. البصل والثوم عماد المطبخ الروسي حتى اليوم. أما الملفوف فسوف تجده في أي رواية روسية من كل عصر، كما تجد البطاطا عند الألمان. وسوف تراه حساء يوميا على موائد الأغنياء، وحساء يوميا للسجناء والمنفيين في سيبيريا. ما سر الملفوف في روسيا؟ «إني لست أدري». ولكن لك أن تخمّن أنه في الشتاء الطويل يلتف هذا النبت على نفسه، ورقة تدفئ الأخرى، فيحارب الجليد. أنا أحب فرعه من القنبيط، وهذا يتناسب مع نصائح الأطباء لمن هم من عمري. كل العائلة الملفوفية مضادة للأكسدة. صحتان. ولكن في السوق الروسية يمكن الحصول أيضا على المشمش والخوخ المجفف. وكنت تشتري من الساحة الحمراء الفراء على أنواعه لدرء صقيع الشتاء الطويل.

أما الآن، فاحزر ماذا؟ الشباب يعترضونني، يريدون أن يعرفوا إذا كنت أبيع سترتي الكاكية الاسبور. الروس مأخوذون بالأشياء الغربية الصغيرة، ولا يشعرون بالمجد القائم في هذا الوسط حيث تقوم إحدى أهم قلاع العالم. فكلمة «كرملين» تعني «القلعة». وفي قلب موسكو بدأ التجمع لدحر المغول في القرن الخامس عشر، سورا خلف سور، ومباني من الخشب يسهل إحراقها في وجه المعتدي كما حدث عندما أُحرقت موسكو لإرغام نابليون على التراجع والاندحار.

بنى الكرملين في ذلك القرن مهندسون إيطاليون، وخلف جدرانه تلاحق التاريخ، ومن أبراجه راقب القياصرة حياة الناس ودورة الحياة. هنا ولد القياصرة وماتوا، ثم مات من بعدهم الثوار، وفي أنفاقه رسمت المؤامرات أو سحقت. لكن القيصر إيفان الثالث الذي كلّف المهندس الإيطالي فيورفانتي بناء القصر، استبقاه في روسيا رغما عنه حتى وفاته.

إلى اللقاء..