الأديان الإبراهيمية ومجابهة الأصوليات الإرهابية

TT

وسط تصاعد موجات الإرهاب حول العالم عامة، وفي الشرق الأوسط خاصة، يتساءل المرء: هل من آليات للأديان تجابه من خلالها بفكرها السليم لحظات الغلو والتطرف التي باتت في واقع الحال تتجاوز العقائد الإبراهيمية إلى المذاهب الوضعية؟

الثابت أن الأصولية في صعود، وكما تشير الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم، يوجد أصوليون في معظم الديانات، إن لم يكن كلها، وقد أشارت المؤرخة الدينية كارين أرمسترونغ، في حديث أدلت به مؤخرًا في مجلس برلمان ديانات العالم، إلى أن الأصولية تظهر في شكل تمرد على المجتمع العلماني الحديث، لأنها تدركه كتهديد لها، وأنها تضرب بجذورها في الخوف من تعرضها للإبادة، وقد أسهمت فيها النزعة التجارية بدافع الجشع والخوف من المجهول.. ما الذي تعنيه المستشرقة الإنجليزية الشهيرة؟

بالقطع، يمكننا القول إن المعتقدات ضيقة الأفق التي تعبر عنها عقلية الأصولية الراديكالية تشجع على الإتيان بسلوكيات مدمرة، وهي الحضانات التي ينشأ فيها الإرهاب والتعصب والنعرات. وقد أدى هذا إلى استمرار الحروب والإبادة العنصرية.

هل من تحديات تفرضها الأصوليات الدينية على المجتمعات الشرقية والغربية على حد سواء؟

المقطوع به أن الأصولية المنغلقة تعتبر من الأخطار الكبرى التي تعصف بكل مجتمع؛ إذ لا يمكن حل أي مشكلة في مجتمع ما انطلاقًا من معتقداته الجامدة، ويكمن خطر الأصولية في عدم تقبلها للحوار وعدم اعترافها بهوية الآخر، والأخطر من ذلك الأصولية العمياء التي تلوي عنق النص الديني - أي دين كان - تبريرًا لمواقف متطرفة بعيدة كل البعد عن روحه. إنه وضع خطير، لا سيما أن أبطال «الهوس الديني» هم شباب الجيل الجديد.

ما أفضل طريق يمكن للأديان كافة، لا سيما اليهودية والمسيحية والإسلام، تقديمه للبشرية في القرن الواحد والعشرين لمواجهة ومجابهة الأصوليات الدينية المتطرفة؟

المؤكد أن القيم الإنسانية تمثل رابطًا عامًا، وقاسمًا أعظم مشترك يمكن للأديان أن تعيد اكتشافها في نفوس الناس، ومن هذه الحقوق الأساسية والقيم الإنسانية الحق في الحياة والحق في التمايز، والحق في التميز، والحق في الاحترام، وهناك كذلك المبادئ الإنسانية الرئيسية مثل الحرية، والعدالة، والمساواة والرحمة، وحب الجمال، والانسجام الخلقي، وجميع هذه القيم لا يختلف عليها كأساس متين وقوي في الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وترسيخ وجودها يعني تقليص مساحات التطرف والأصولية.

ضمن الآليات التي تساعد في مواجهة تحدي الأصوليات ضمن الأديان الإبراهيمية الثلاثة، البحث في الماضي المشترك وأوقات التعاون والتسامح وقبول الآخرين اليهود والمسيحيين والمسلمين بنوع خاص.

ولعل أفضل من يعطينا رؤية عن أداة المجابهة هذه، هو المؤرخ والكاتب الأميركي الشهير زاكاري كارابل في كتابه الشهير «أهل الكتاب.. التاريخ المنسي لعلاقة الإسلام بالغرب»، والذي يذهب إلى أننا جميعًا أسرى ثقافتنا بدرجات متفاوتة، ومع بعض الاستثناءات يمكن القول إن الصورة الحالية للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين واليهود هي صورة سلبية، وإن الاعتقاد بدوام وجود الصراع قد يرسخ بشكل عميق.

وإذا كان للقصص المروية في صفحات التاريخ أن تقول شيئا فهو إن هناك وجهة نظر مختلفة: كان هناك عبر التاريخ تعاون فعال، وكان هناك تسامح، كما كانت هناك فترة عدم اكتراث، والطريقة الوحيدة لوصف مسيرة أربعمائة سنة كتاريخ من الصراع، هو أن ننسى ونتجاهل القصص الإيجابية في التاريخ بين الأديان الثلاثة، لأن أحدًا لم يفكر بأنها تستحق التدوين.

والمؤكد أن الحوار بالتي هي أحسن وبالموعظة الحسنة، لهو أفضل الآليات لمواجهة الأصولية والتشدد والعنف، إن الموعظة الحسنة تعتمد على وسائل وأساليب تساعد من يحاور أن يقبض على نواحي الأنفس، وتحريك العواطف والانفعالات الإنسانية وتوجيهها إلى طريق الحق والخير.

إن الحوار يلين القلوب القاسية بقوة تأثيره، وإذا ما انحلت العقد النفسية عند الأصوليين عاد الإنسان منهم إلى فطرته الصافية التي تقبل الحق وتستجيب له، والموعظة الحسنة تتطلب من المحاور أن تقوم موعظته على الصحة والالتزام بها، ويسلك في عرضها الأصول المنطقية الفكرية السليمة، ويتجرد عن الأغراض الشخصية، وأن يكون في ذاته وأخلاقه وأعماله قدوة حسنة، واتخاذ وسائل الرفق واللين في الحوار، وتنزيل الناس منازلهم.

وإذا كانت الأصولية تنطلق في طريق عزل أو إقصاء الآخر، ولهذا فإن أفضل وسيلة للقفز على مثالب الأصولية، هي العيش المشترك بين أتباع الأديان.

والعيش المشترك يعتبر نهاية المطاف في الحوار، حيث إنه بين الحوار والعيش المشترك «رباط عضوي»؛ فالحوار من شأنه أن يؤكد نقاط التلاقي بين الديانات، وأن الأمور المشتركة بين المسيحيين والمسلمين أكثر وأهم بكثير من الأمور التي يختلف فيها.

كذلك من بين أهم الآليات التي يمكن من خلالها مجابهة الأصوليات، تلك المتعلقة بإدراك شكل من أشكال العدالة الدولية، في حل قضايا وصراعات حول العالم، تكون سببا رئيسيا في نشوء تلك الأصوليات وارتقائها.

وباختصار غير مخل، فإن مشكلة العدالة العالمية هي مشكلة محورية بالنسبة لقضية صراع الأصوليات؛ فمن ناحية تعتبر استراتيجيات صراعات المصالح من أجل تحقيق العدالة السياسية والاجتماعية الأساس الذي تقوم عليه صراعات الهوية التي تتبناها الحركات الأصولية في اليهودية والإسلام والمسيحية، ولذلك فإن حل مشكلة العدالة العالمية وتكوين سلطات قوية متعددة الأطراف وذات مجال عمل عالمي، سيكون له عظيم الأثر على مجابهة الأصوليات الإرهابية.