مابعد بيان عرفات

TT

طلب الرئيس بوش من الدول العربية الضغط على الرئيس ياسر عرفات للقيام باجراءات عملية حازمة لوقف الارهاب الموجه ضد اسرائيل. وكرر المسؤولون الاميركيون (باول ورايس وتشيني) هذا الموقف الاميركي بعد خطاب الرئيس عرفات الذي وجه فيه نداء لجميع الفلسطينيين بوقف العمليات المسلحة حفاظا على المصالح الوطنية الفلسطينية العليا. فبالرغم من ان البيت الأبيض اعتبر خطاب الرئيس ياسر عرفات بناء فقد طالب البيت الأبيض ووزارة الخارجية الاميركية ومجلس الأمن القومي الاميركي الرئيس ياسر عرفات باتباع القول بالفعل. وهكذا فعل الاسرائيليون وفي خضم الخطاب وردود الفعل عليه تناسى المسؤولون الاميركيون والاسرائيليون تماما ارهاب دولة اسرائيل الذي تشنه قوات احتلالها ضد الشعب الفلسطيني منذ 34 عاما وتصاعد خلال العام 2001 تصاعدا دمويا وتدميرا خطيرا. ولم يربطوا اطلاقا بين الترجمة العملية لخطاب الرئيس ياسر عرفات ووقف العدوان الاسرائيلي والحصار الذي تفرضه قوات الاحتلال الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني بأكمله.

كما اعلن شارون ومسؤولون اسرائيليون اخرون ان عمليات جيش الاحتلال الاسرائيلي ضد الفلسطينيين سوف تستمر ولن تتوقف. مع هذه المواقف الاميركية والاسرائيلية الواضحة لم يعد هنالك مجال لتفسيرات واجتهادات ملطفة او مخفضة للمأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني او المخاطر الشديدة التي يتعرض لها الآن وستزداد مع العام 2002.

ماذا يلقي هذا الوضع الصعب من مسؤوليات على وزراء الخارجية العرب الذين قرروا ان يعقدوا اجتماعا يوم الخميس (غدا) لدراسة الأوضاع الخطيرة ورسم خطة تحرك عربية استنادا لدراستهم تلك. لا نريد ان نسرد ونكرر البديهيات المعروفة لدى وزراء الخارجية العرب وقادتهم. فنحن على يقين انهم يلمون تماما بالمعلومات والبديهيات والأسس. لكننا سنركز على مهمة محورية عاجلة استنادا للخطاب الرئاسي الفلسطيني ولردود الفعل الاميركية والاسرائيلية عليه دون الخوض في مسألة من هو المعتدي ومن هو الذي يدافع عن نفسه في المعارك الدائرة على الأرض الفلسطينية، ودون ان نحدد من هو المجرم ومن هي الضحية، لأن هذا ايضا معروف. نقول ان الولايات المتحدة واسرائيل وحتى اوروبا تطالب الرئيس ياسر عرفات بوقف العمليات واعتقال مدبريها (خاصة الانتحارية منها). واعلن الرئيس ياسر عرفات في خطابه بان السلطة الوطنية الفلسطينية لن تسمح لأحد بان يخرب المشروع الوطني الفلسطيني وأنها تطالب الجميع باحترام قرار وقف اطلاق النار تحت طائلة العقاب لمن يخالف هذا الأمر. وقررت السلطة الوطنية الفلسطينية القيام بسلسلة من الاجراءات العملية المنسجمة مع هذا الاعلان الواضح. لكن العنف الذي تشهده الأراضي الفلسطينية ليس عنفا بين فصائل طرف واحد... هو الطرف الفلسطيني. بل انه عنف يدور بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني (ومرة اخرى نقول دون ان نحدد من هو المعتدي ومن هو الذي يدافع عن نفسه لأن هذا معروف). لكن الاسرائيليين كما ذكرنا اكدوا على لسان رئيس وزرائهم، انهم سيستمرون في هجماتهم العسكرية ضد الفلسطينيين تحت شعار محاربة الارهاب. وبالفعل قامت قوات الاحتلال الاسرائيلية بعمليات اغتيال وقصف واطلاق نار بعد خطاب الرئيس ياسر عرفات مباشرة. كما قام بعض المسلحين الفلسطينيين باطلاق النار على سيارات اسرائيلية ومواقع عسكرية.

فقد قتلت قوات الاحتلال الاسرائيلية ثلاثة فلسطينيين مباشرة بعد خطاب الرئيس ياسر عرفات الذي اعلن فيه عن قرار وقف كافة الأعمال المسلحة. ومن بين القتلى طفل ورجل أمن واحد كوادر حركة حماس الذي اقتحمت قوات خاصة اسرائيلية (ما يسمى بالقوات المستعربة) بيته واحتجزت زوجته واطفاله. وهذا يدل على ان اسرائيل مستمرة في اعتداءاتها وغير آبهة بالرأي العام العالمي او باعلان الرئيس ياسر عرفات. وكما هي عادة اسرائيل فانها وحلفاءها سيتجاهلون حقيقة ان العدوان الاسرائيلي يولد ردود الفعل وسيشيرون لحوادث اطلاق النار التي جرح فيها مسلحون فلسطينيون ثلاثة اسرائيليين على أنها استمرار للعمليات الارهابية وسيتهمون الرئيس ياسر عرفات بالمسؤولية عن ذلك وسيشككون بمصداقية وقدرة الرئيس ياسر عرفات. وهذا مثل واضح على المسلسل الطويل للاعتداءات الاسرائيلية والاغتيالات واعادة احتلال المناطق الفلسطينية التي سببت ردود فعل فلسطينية ساهمت في ازدياد حلقة العنف الدائرة في المنطقة.

الأميركيون يريدون من الرئيس ياسر عرفات افعالا تتبع الأقوال لانهم يرون (حسب اعلانهم) في خطاب الرئيس ياسر عرفات نهجا بناء وجيدا. فكيف يمكن للرئيس ياسر عرفات ان يتبع اقواله بالأفعال واسرائيل مستمرة في عدوانها على الفلسطينيين، ومستمرة في احكام الحصار على المدن والقرى الفلسطينية ومستمرة في التوغل العسكري داخل المناطق التي تخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية؟؟

هذا الأمر تشكل الاجابة عليه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق وزراء الخارجية العرب. لقد اعلن وزير الخارجية الاميركي كولن باول في مؤتمر صحافي ان على الفلسطينيين ان يتوقعوا تجاوبا اسرائيليا ان هم وضعوا حدا للارهاب. وحدد ان الرؤية الاميركية للحل في الشرق الأوسط ما زالت قائمة وان تطبيق توصيات ميتشل هي الخطوة العملية الأولى. والعرب يريدون من الأميركان ان يتبعوا الأقوال بالأفعال وليس اصدار البيانات فقط.

ولكي تصبح المعادلة متوازنة ولكي تبدأ خطوات عملية ملموسة على الأرض يتحتم على الولايات المتحدة ان تحذو حذو الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في مطالبة اسرائيل بوقف العدوان لتتمكن السلطة وياسر عرفات من القيام بالأفعال العملية التي تترجم الأقوال. فقد طالب خافيير سولانا اسرائيل بوقف عدوانها وعملياتها العسكرية كما طالب بذلك تيري رود لارسن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في الشرق الأوسط وطالبت بها موسكو في بيان صادر عن الخارجية الروسية. فاذا كان العنف دائرا بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي واذا كان الطرف الفلسطيني قد تعهد بوقفه فكيف يمكن للهدوء ان يستتب إذا استمر الطرف الاسرائيلي في اطلاق النار والاعتداء على الشعب الفلسطيني ومؤسساته؟ هذا هو السؤال الذي يجب على وزراء الخارجية العرب ان يطرحوه على الادارة الاميركية وان يطالبوا الادارة بالزام شارون بوقف الاعتداءات وفك الحصار واعطاء فرصة لتهدئة الأوضاع وكبح جماح العنف.

شمعون بيريس وزير خارجية اسرائيل اعلن اثر خطاب الرئيس ياسر عرفات انه لا بد من اعطاء السلطة الفلسطينية وقتا لتنفيذ تعهداتها بوقف اطلاق النار ومعاقبة المخالفين. ورأى بيريس ان هذا يتطلب وقف العمليات العسكرية الاسرائيلية. فاذا كان هذا هو موقف وزير الخارجية الاسرائيلي فلماذا لا يستخدم وزراء الخارجية نفوذهم لدى واشنطن للمطالبة بحزم بضرورة الزام شارون بوقف اطلاق النار فورا وعدم تبني موقف شارون الرافض لوقف اطلاق النار والمستمر في اعتدائه على الشعب الفلسطيني.

ويكتسب هذا الطلب اهمية وثقلا في ظل تأكيد الادارة الاميركية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ان السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات هي الجهة الشرعية التي تمثل الشعب الفلسطيني والمنتخبة ديمقراطيا من قبله.

نقول يكتسب اهمية خاصة لأن عدم الزام شارون بوقف اطلاق النار لا يعني سوى اعطائه الضوء الأخضر لاطلاق النار على السلطة ومؤسساتها الشرعية. وهذا يتناقض مع موقف اميركا المعلن من ياسر عرفات والسلطة الوطنية الفلسطينية.

هذا من ناحية. ولكن الناحية الهامة الأخرى هي ان اعطاء الضوء الأخضر لشارون بالاستمرار في عدوانه على الشعب الفلسطيني سوف يعني بالضرورة عدم استتباب الهدوء. وهذا يعني ان العملية السياسية لن تبدأ في ظل الشرط الاميركي الاسرائيلي لبدء هذه العملية السياسية وهو: الهدوء الكامل. ويستنتج من هذا ان الادارة الاميركية لا تنوي تطبيق رؤيتها للسلام في الشرق الأوسط القائمة على حل سياسي يضمن قيام دولة فلسطينية تعيش بسلام الى جانب دولة اسرائيل. هذا هو التسلسل المنطقي لموقف الادارة الاميركية ان هو بقي على حالة في مطالبة ياسر عرفات بوقف اطلاق النار بينما تسمح لشارون بالاستمرار في اطلاق النار.

لذلك فان واجب وزراء الخارجية العرب ان يعملوا فورا لايجاد حل لهذه المعضلة المتمثلة في الموقف الاميركي غير المتوازن. وباعتقادنا ان هذا ممكن خاصة اذا أخذنا بعين الاعتبار ان روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة يؤيدون الزام اسرائيل بوقف عدوانها على الشعب الفلسطيني ووقف اطلاق النار المتوازي مع وقف اطلاق النار الذي اعلنه الرئيس ياسر عرفات.

ولا شك ان تنسيق هذا الجهد العربي مع روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة سوف يزيد من قوة المطالبة العربية بان تلزم الادارة الاميركية اسرائيل بوقف اطلاق النار.

هذه هي المهمة العاجلة لوزراء الخارجية العرب.

* مستشار الرئيس الفلسطيني