التصحيح المأمول... من بريطانيا 2002

TT

من باب المصادفة، او ان الامر مفتعل الى حد ما، جاء طرح الرؤى الأميركية للنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي وكيف يمكن ايجاد الحل لهذا النزاع في الشهر الذي شهد في زمنين متفاوتين اخطر حدث في تاريخ القضية الفلسطينية.

الرؤية الأميركية طرحها وزير الخارجية كولن باول يوم الاثنين 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 2001 في خطاب القاه في جامعة «لويفيل» في ولاية كنتاكي، وجاء طرحها في وقت بدأ «نظام طالبان» في أفغانستان يتهاوى امام القصف الجوي الأميركي حيث تساقطت عشرات القذائف زنة الواحدة منها سبعة اطنان فوق مناطق عدة من أفغانستان ابرزها العاصمة كابول، انما من دون ان يتضح مصير الرأسين المطلوبين الملا محمد عمر رئيس «طالبان» وضيفه المطلوب رأسه حياً او ميتاً اسامة بن لادن. وهو مصير لم يتضح طوال ايام الشهر الفضيل رمضان حيث القصف الأميركي استمر وعلى نحو ما كانت كل الدول الاسلامية الصديقة للولايات المتحدة لا تريد ذلك. ثم ودعنا شهر الخير والبركات والوضع على حاله. وفي التاريخ نفسه من العام 1977، وصادف يوم السبت وصادف ايضاً عشية عيد الاضحى المبارك، فاجأ الرئيس أنور السادات الشعب المصري والأمتين العربية والاسلامية والعالم بزيارة قام بها الى القدس تلبية لدعوة رسمية تلقاها من رئيس وزراء اسرائيل مناحيم بيغن يوم 15 نوفمبر واختار الرئيس المصري (الذي لقي حتفه اغتيالاً في حادثة المنصة الشهيرة يوم 6 أكتوبر 1981 جزاء زيارته هذه) ان يقوم بالزيارة يوم السبت 19 نوفمبر وان يهبط في اسرائيل بعد غروب الشمس وبأن يؤدي صلاة العيد يوم الاحد 20 نوفمبر في المسجد الاقصى في القدس ثم يزور كنيسة القيامة، وبعد الظهر يلقي خطاباً في الكنيست (البرلمان الاسرائيلي).

وقبل اربع وثمانين سنة وتحديداً يوم الثاني من نوفمبر 1917 كان وزير خارجية بريطانيا المشبع بتربية متأثرة بالتعاليم التوراتية مع انه مسيحي محافظ، والمعجب كل الاعجاب بالزعيم الصهيوني حاييم وايزمان، يبعث برسالة الى المليونير اليهودي المعروف اللورد روتشيلد نصت على الآتي: «عزيزي اللورد روتشيلد، يسعدني كثيراً ان أنهي اليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك، التصريح الآتي: تعاطفاً مع أماني اليهود الصهيونيين التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء، فإن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف الى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. وستبذل افضل مساعيها لتسهيل تحقيق هذه الغاية على ان يُفهم جلياً انه لن يُسمح بأي اجراء يُلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الجماعات غير اليهودية القائمة في فلسطين، ولا بالحقوق او بالمركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الاخرى...».

هذه المبادرة من جانب وزير الخارجية البريطانية التي جاءت في صيغة رسالة من لورد الى لورد لم تأت من فراغ، حيث ان بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا عام 1839، أي عندما كانت بريطانيا امبراطورية عظمى وصاحبة يد طولى في اكثر من بلد في قارات العالم الخمس وعلى نحو ما هي عليه حال الولايات المتحدة اليوم، كان دعا زمنذاك الى زرع كيان يهودي استيطاني في فلسطين بهدف قطع الاواصر بين مصر ودول المشرق العربي وهي سياسة استمرت ثابتة من جانب بريطانيا في عهودها المختلفة، وجاءت اتفاقية كامب ديفيد بعد بضعة عقود تكرس هذا الغرض.

ويوم الثاني والعشرين من نوفمبر 1967 كان مجلس الامن الدولي يصوِّت على مشروع القرار الذي صاغه لورد بريطاني آخر وهو القرار المعروف بالقرار 242 والذي ذاع صيت واضعه اللورد كارادون كسياسي شديد البراعة في جعل اطراف النزاع يختلفون في التفسير بسبب حرف واحد من كلمة ذلك انه بدل ان يقول كارادون عند الصياغة «الاراضي» فإنه على عادة رجال السياسة البريطانيين ازاء كل ما يتعلق بالعرب واليهود زرع اشكالية وظفتها الدولة العبرية لمصلحتها أمكر توظيف، حيث انها منذ 34 سنة تتصرف على اساس ان مشروع القرار الذي صاغه اللورد كارادون لا ينص على انسحابها من كل الاراضي التي احتلتها في حرب 5 يونيو (حزيران) 1967 وإنما من «اراضٍ»، وهذا يعني انها هي التي تحدد هذه الـ«اراضٍ» وبما يناسب سياستها وامنها. ونقول ذلك مع الاخذ في الاعتبار ان اللورد كارادون حاول بعد ذلك، ومن منطلق فهمه العميق للمنطقة العربية والمامه بحقائق التكوين النفسي لحكامها وشعوبها، ان يبرئ ذمته من مسألة الصياغة.. ولكن بعد ماذا؟ فقد بات مشروع القرار قراراً رسمياً ولا مجال لاي تعديلات. ولم تجد الاطراف العربية ثغرة سوى القول انها ستأخذ بالنص الفرنسي للقرار الذي يخلو من مسألة «اراضٍ» وترى صياغته ان الانسحاب الاسرائيلي يشمل كل الاراضي المحتلة.

الآن وفي ضوء هذا الواقع المرير الذي تعيشه القضية والرؤى العقيمة التي تصدر من الطرف الاميركي فضلاً عن التصريحات العشوائية التي تفتقد ابسط قواعد اللياقة والتي تنضح بانحياز اعمى لاسرائيل، نجد انفسنا نطالب على الاقل بتنفيذ مضمون وعد بلفور الذي استندت اليه الدولتان الكبريان الولايات المتحدة وبريطانيا ومعهما بعض الدول الكبرى ومعظم الدول الاوروبية، في تصميمها على اقامة الكيان العبري. فالوعد البلفوري ينص على «تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين». ومثل هذه العبارة تعني ان يكون ليهود فلسطين فقط وطن وليس لكل يهود العالم. كما تعني ان يكون هذا الوطن على جزء من الارض الفلسطينية وليس على كل ارض فلسطين... ومن اجل ذلك فإن العبارة هي «وطن قومي في فلسطين» وليس وطناً بديلاً عن فلسطين، ويكون اسمه بعد ذلك كما ارتأت الصهيونية: «اسرائيل». كذلك ينص الوعد البلفوري على الآتي: «وستبذل (اي الحكومة البريطانية) افضل مساعيها لتسهيل تحقيق هذه الغاية (أي تأسيس الوطن القومي للشعب اليهودي في فلسطين) على ان يُفهم جلياً انه لن يُسمح بأي إجراء يُلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الجماعات غير اليهودية القائمة في فلسطين». ومثل هذه العبارة تؤكد فقط استمرار وجود فلسطين (والقراءة المتأنية توضح ذلك) وإنما تنبه وبصيغة الاشتراط الى عدم إلحاق الضرر بحقوق الفلسطينيين المدنية والدينية.

ونحن اذا تأملنا في كل التصرفات التي تحدث من جانب العصابات الصهيونية على ارض فلسطين من بداية الخمسينات وحتى الزمن الشاروني الاكثر سوءاً، نرى ان كل الممارسات الاسرائيلية تناقض الوعد البلفوري، حيث ان الاستيلاء شمل كل فلسطين وحيث ان الضرر يلحق بالحقوق المدنية والدينية للفلسطينيين مسلمين ومسيحيين، وحيث ان الحكومات الاسرائيلية تمارس العنصرية والاساليب النازية وتتصرف على نحو انها اشترت وعد بلفور بالمال اليهودي دفعه كرشوة المليونير اليهودي روتشيلد الى زميله في اللوردية وزير خارجية بريطانيا جيمس ارثر بلفور، وأن من يشتري ويدفع لا يعود من حق الذي باع ان يناقشه في شيء.

وعندما نطالب بريطانيا العام 2002 الذي يبدأ بعد 11 يوماً، ومن خلال حكومتها الحالية التي يترأسها طوني بلير بإعادة قراءة النص البلفوري والتصحيح من خلال التنفيذ الحرفي لروحية مضمون هذا الوعد التي هي بروحية القرار 242 الذي صاغه اللورد كارادون، فعلى اساس ان الاحفاد يتحملون مسؤولية اخطاء الاجداد وأنهم ما داموا يتعاطون مع تطورات الصراع الناشئ عن تلك الاخطاء فإن من حق المتضررين عليهم مطالبتهم بذلك التصحيح، علماً بأن هذه المطالبة تكررت مراراً. ولا تزال ماثلة امامنا مطالبة ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز لرئيسة الحكومة البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر ولدى زيارة رسمية قام بها الى بريطانيا عام 1988 بالتصحيح وقوله بالحرف الواحد لها «ان وعد بلفور عار يجب ان يُصحح...». ونعتقد أنه في حال قررت الحكومة البريطانية التصحيح وذلك بتطبيق روحية وعد بلفور في الحد الأدنى، فان دولاً اوروبية كثيرة ستبدي مشاعر الارتياح لذلك، ومن بين هذه الدول فرنسا التي على رغم تباهيها بأن اجداد الشيراكيين والاشتراكيين، لم يفعلوا ما فعله الاجداد البريطانيون ولم يكن هنالك بلفور فرنسي، إلاّ ان السياسة الفرنسية ليست في المستوى المطلوب منها ازاء القضية الفلسطينية. وليس هنالك ضرورة لهذا التصحيح اكثر من الآن. ولذا فإننا في ضوء تقاطعات طفيفة بين الادارة الاميركية والحكومة البريطانية نتمنى ان تصدر عن بريطانيا 2002 مبادرة في هذا الشأن تكون بمثابة اقتحام جريء للاسوار المحيطة بالقضية الفلسطينية. ومن مظاهر هذه التقاطعات أنه في الوقت الذي كان الرئيس جورج بوش الابن يستقبل في البيت الابيض يوم الاربعاء 12 ديسمبر (كانون الأول) 2002 عدداًَ من القادة اليهود بعد ان شارك معهم في مراسم إشعال شمعة عيد الانوار اليهودي «حانوكا» ثم يدلي بتصريحات عشوائية وتفتقد الى اللياقات وينقصها بُعد النظر في حق قيادات عربية وطنية تحظى بالتفاف شعبي حولها، تذكَّر فجأة شارون فمنحه تحية دعم تمثلت في القول: «انني لو كنت محل شارون لفعلتُ مثله وانه اذا منحت سورية ولبنان الحماية لحركة «حماس» و«حزب الله» فإن هذين البلدين لن يختلفا عن نظام طالبان»... إنه في هذا الوقت كان الانزعاج الرسمي والشعبي متواصلاً من اختراق السفير الاميركي لدى لبنان فنسنت باتل لجدار اللياقات وذلك من خلال كلام في ندوة تلفزيونية لم يحترم فيه اصول مخاطبة رئيس الدولة اميل لحود، وكان الطيران الاسرائيلي يخترق جدار الصوت بقوة في سماء العاصمة اللبنانية بيروت، وكان سفير بريطانيا لدى لبنان في طريقه الى الضاحية الجنوبية من العاصمة لعقد اجتماع مع الامين العام لـ«حزب الله» الشيخ حسن نصر الله هو الاول من نوعه. وفي هذا الاجتماع الذي سهَّل امر عقده التطبيع الايراني ـ البريطاني وزيارة وزير خارجية بريطانيا قبل حوالي شهرين الى طهران، تَحاورَ الطرفان على مدى ساعة ونصف الساعة مختلفين حول امور اساسية ومتفقين على استمرار التواصل. وبدا الكلام الودي من السفير ريتشارد كينشن بعد اللقاء عن «حزب الله» وقوله «ان الهدف من الدبلوماسية هو توسيع رقعة التفاهم» وكأنما هنالك شوكة توخز ضمير الاحفاد البريطانيين ويريدون نزع هذه الشوكة التي اسمها «وعد بلفور»... إنما في الوقت الذي يشعرون فيه ان الادارة الأميركية تعقلنت بعض الشيء.