شروخ وجسور

TT

هذه الهجمة الغربية على فهم الاسلام تثير الاعجاب، وتثير الحذر، فقد كان هناك برنامج مطول عن الاسلام في CNN وآخر في القناة الثانية للتلفزيون البريطاني BBC2، والكتب التي تتحدث عن الاسلام والشرق الاوسط تحتل للمرة الاولى ـ ربما ـ قوائم اوسع الكتب انتشارا وفي قمتها هذه الايام كتاب المستشرق برنارد لويس «الشرق الأوسط ألف سنة من التاريخ من فجر المسيحية حتى يومنا».

ومصدر الاعجاب ان الرغبة في الفهم مقدرة ومحترمة مهما كانت اسبابها، فمن يصادق أو يعادي عن فهم، غير من يعادي حقدا والتزاما بالموجات السائدة، وحول الرغبة في الفهم لا بد ان نلاحظ ان الكتب العربية التي تجعلنا نفهم اميركا اكثر شبه معدومة، ولم نشاهد منها في الشهرين الماضيين غير كتاب رضا هلال «تفكيك اميركا».

اما الذي يثير الحذر فهو شيوع انماط بعينها من الكتب، فلو كان كتاب مكسيم رودنسون عن النبي محمد صلى الله وعليه وسلم هو الذي شاع وانتشر بدلا من كتاب برنارد لويس لأدركنا ان الرسالة الفكرية المعتدلة والمحايدة هي التي تصل للغرب، أما مع لويس فلن تصل غير الفكرة المضللة والمنحازة، فبعض كتب هذا المستشرق الكبير تخلط السم بالدسم، وتخليص هذا من ذاك يحتاج الى دارس متعمق لا الى مستعجل يريد ان يستوعب حضارة اقوام ما كان يعرف عنها الكثير وأفاق ليجد نفسه على عداء معها.

وفي الغرب اصوات كثيرة محايدة في فهم الاسلام والعرب، ومنها الراهبة آرمسترونج التي وضعت كتابا عن الاسلام، وتحدثت في برنامج CNN، مركزة على فكرة نادرا ما يقف عندها الباحثون عن العداء، وهي ان معظم الفاعلين من المفكرين المسلمين في القرنين التاسع عشر والعشرين تجانسوا مع الغرب، ووجدوا قواعد مشتركة للتفاهم الحضاري معه، ومن هؤلاء جمال الدين الافغاني، ومحمد عبده، ولاحقا محمد اركون ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وغيرهم كثر.

وفي ذات البرنامج تحدث اسبوزيتو، رئيس مركز التفاهم الاسلامي المسيحي وهو صاحب آراء ايجابية معروفة يحملها عادة كل من يعملون في حقول التفاهم، وطبعا لم يكن تقديم الاميركي ووكر الذي اعتنق الاسلام حبا بمالكولوم إكس وذهب ليقاتل مع الطالبان موفقاً لكنه حالة نموذجية للفهم الملتبس للاسلام في الغرب، فأغلب الذين يتأثرون بشخص أو نموذج يسيرون على ذات الطريق لأنهم لا يعرفون غيره.

وهنا المشكلة كما أظن في شيوع كتب المؤلفين بعينهم، فالنموذج الوحيد الذي يرضي برنارد لويس في الاسلام هو النموذج التركي الكمالي، فهذا المستشرق الانجليزي المتحدر من اصول يهودية والذي هجر بريطانيا ليقيم في اميركا حيث المناخ ارحب لأمثاله، لن يرضى عن التجربة الاسلامية إلا إذا تعلمنت بالكامل، واستبدلت الحروف العربية باللاتينية.

وكان لويس يدافع عن الديمقراطية التركية قبل تجربة عزل اربكان رئيس حزب الرفاه الذي وصل للحكم بأسلوب ديمقراطي، ولا أعرف ان كان اعجابه بالديمقراطية التركية ما يزال ثابتا ومستقرا، وقد يكون الأمر كذلك فهو من المعجبين ايضا بالديمقراطية الاسرائيلية، رغم كل ما تفعله بالفلسطينيين. ومن تكون هذه منطلقاته لا بد ان ينقلها لقرائه، ومن هنا يتضاعف الحذر، فكم من كلمة حق يراد بها باطل لا سيما حين تجد إعلاما قويا ومؤثرا يحملها ويروجها كالاعلام الصهيوني.

ورغم هذه النماذج ـ أو بسببها ربما ـ فإن الاهتمام ببناء جسور التفاهم يجب ان يستمر ويتعزز، وإلا فالنتيجة وخيمة (للفسطاطين) وقد رأينا حجم الدم الذي سال في ظرف ثلاثة أشهر، فما بالك بثلاث حقب أو ثلاثة قرون على غرار الحروب الصليبية التي يحاول البعض التذكير بها لتعميق شرخ مؤلم يحتاج الى من يردمه لا الى من يعمقه.