منظمة الأمم المختلفة

TT

يعطل الفيتو الامريكي الصادر يوم السبت الماضي 15 ديسمبر 2001، الارادة الدولية الرامية الى اقامة قوات دولية لمراقبة الوضع في الاراضي الفلسطينية المحتلة، التي عبرت عنها اغلبية الاصوات في مجلس الامن المكون من خمس عشرة دولة، بموافقة اثنتي عشرة دولة على القرار وامتناع بريطانيا والنرويج عن التصويت، واعتراض امريكا عليه; التي لم تكتف باستخدام حقها في الفيتو لحماية اسرائيل وانما بررته على لسان مندوبها الدائم لدى الامم المتحدة جون نيجروبونتي، الذي اكد ان مشروع قرار مجلس الامن المستند الى اقتراح مجموعة الدول العربية لم يكن متوازنا وغير عادل بالنسبة لاسرائيل وبالتالي لا يحقق الهدف الدولي الرامي الى تحقيق السلام في الشرق الاوسط.

على نفس الانغام الامريكية بالجوقة الصهيونية، غنت بريطانيا التي امتنعت عن التصويت بقول مندوبها الدائم لدى الامم المتحدة السير جيريمي جرينستوك ان امتناع بريطانيا عن التصويت على قرار مجلس الامن بمراقبة الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي جاء لان نص مشروع ذلك القرار لا يستند الى الحقائق القائمة على ارض الواقع، ولا يوضح حدود المسؤولية على الطرفين بوقف اعمال العنف، ولا يحدد الخطوات المقبلة الواجب اتخاذها لاستئناف المفاوضات السلمية، مما يجعل من قرار مجلس الامن غير مجد في معالجة الاوضاع داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة. وطالب اسرائيل والسلطة الفلسطينية بالعمل معا على وقف اعمال العنف بينهما.

حاولت امريكا توظيف موقف بريطانيا والنرويج بالامتناع عن التصويت على قرار مجلس الامن، ليمثل موقفهما المعارضة الصامتة لدول الوحدة الاوروبية على قرار مجلس الامن، ولكن دحض هذه المحاولة موقف فرنسا وايرلندا في داخل مجلس الامن بتصويتهما مع صدور القرار القاضي بمراقبة الاوضاع في داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة لتحديد المعتدي، والمعتدى عليه امام الاسرة الدولية. واكد هذا الموقف الاوروبي البيان الذي اصدرته قمة الوحدة الاوروبية التي عقدت في بروكسل التي انكرت عدم التوازن في مشروع قرار مجلس الامن وطالبت بحتمية التحرك الدولي لوقف اعمال العنف المتبادلة بين الطرفين وما يرتبط بهما من كوارث على الارض وضحايا بين الناس وما يؤديان اليه من خلل في الامن الاقليمي الذي يترتب عليه المساس المباشر بالاستقرار الدولي.

ولا شك عندنا ان هذا البيان الصادر عن القمة الاوروبية في بروكسل، والاغلبية الكبيرة التي حصل عليها مشروع قرار مجلس الامن الذي عطلت صدوره امريكا باستخدام حقها في الاعتراض (الفيتو) ضده، يكشفان عن موقف دولي يسعى الى تحقيق مناخ سياسي في اقليم الشرق الأوسط يساعد على عودة المفاوضات السلمية بين الفلسطينيين والاسرائيليين بعد ان ثبت للعالم استحالة الوصول الى السلام في ظل مناخ العنف. وهذه الارادة الدولية اتضحت معالمها من المناقشات الجانبية التي سبقت انعقاد مجلس الامن الرامي الى وقف المواجهات المسلحة، حيث كان هناك شبه اجماع بين الدول الاعضاء بمجلس الامن على تأييد صدور القرار بوقف العنف في الاراضي الفلسطينية المحتلة عن طريق ارسال قوات دولية لمراقبة الاوضاع.

لاحظت فرنسا نية امريكا في عرقلة صدور قرار مجلس الامن باستخدام «الفيتو» ضده منذ بداية مناقشة مشروع القرار الذي تقدمت به مصر باعتبارها رئيسة المجموعة العربية في الامم المتحدة لشهر ديسمبر الحالي، وحملته الى مجلس الامن العضو العربي الوحيد بمجلس الامن، تونس، في دورته الحالية، فبادر المندوب الدائم الفرنسي لدى الامم المتحدة جان ديفيد ليفيت الى ادخال بعض التعديلات على نفس المشروع العربي للقرار المطلوب صدوره من مجلس الامن، وتمثل هذا التعديل الفرنسي في ادخال فقرة تطالب بوقف جميع اعمال العنف والارهاب التي تؤدي الى قتل وجرح المدنيين، وهو يستهدف بذلك تغيير موقف امريكا من استخدام حقها في الاعتراض بالفيتو الذي يمنع صدور القرار، الى الامتناع عن التصويت حتى يأخذ القرار طريقه الى الصدور ليعبر عن الارادة الدولية.

اعترض المندوب الدائم الفلسطيني لدى الامم المتحدة ناصر القدوه على هذا التعديل الفرنسي بحجة انه يساوي بين مقاومة الاحتلال المشروع وبين الارهاب المحرم بموجب احكام القانون الدولي العام، وأخذ يحاول مع المندوب الفرنسي ايجاد صياغة مقبولة توضح الفرق بين المقاومة والارهاب، غير ان محاولة التعديل الفرنسية اغتيلت بموقف المندوب الامريكي جون نيجروبونتي الذي لم يظهر اية مرونة في الحوار واصر على موقف امريكا الذي يؤكد ان مشروع القرار مرفوض جملة وتفصيلا ولا مفر من استخدام الفيتو ضده، وهو ما حدث بالفعل فمات قرار مجلس الامن قبل مولده بالفيتو الامريكي بدون اي اعتبار للارادة الدولية من اجل سواد عيون اسرائيل.

نحن لا نريد ان نكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة عن حتمية تعديل ميثاق الامم المتحدة لالغاء حق الاعتراض بالفيتو المعطى للدول الخمس الكبرى الذي اصبح معوقاً للسلام في ظل الظروف الدولية المعاصرة التي تختلف تماماً عن ما كانت عليه في سنة 1945 بعد الحرب العالمية الثانية، حتى اصبح السلام الدولي مجرد شعار ترفعه الامم المتحدة استناداً الى ميثاقها وعاجزة عن تطبيقه فوق ارض الواقع العالمي بعد ان غيرت المنظمة الدولية جلدها السياسي لتصبح منظمة الامم المختلفة بالرؤى المتباينة للدول الخمس الكبرى وفق لهوى مصالحها وروابطها الاستراتيجية، وانما نريد ان نتحدث عن التناقضات بين القرارات الصادرة عن مجلس الامن التي تثبت بالدليل القاطع حكم الهوى السياسي على هذه المنظمة الدولية التي اصبحت مجرد منبر للخطابة تصعد عليه الدول «لتفش» غليلها بالكلمة التي تلقيها من دون ان يستمع لها احد، ومن دون ان تتوقع الحصول على حقها العادل، لان الهوى السياسي المسيطر على المنظمة الدولية يفرض ما يريد ويمنع ما لا يريد بغض النظر عن العدل والحق حتى اصبح ينطبق على الامم المتحدة ما قاله الخليفة الراشد الرابع علي بن ابي طالب كرم الله وجهه «لا رأي لمن لا قوة له». والعرب اليوم بكل اسف، لا رأي لهم بعد ان فقدوا قوتهم المؤثرة على المسرح الدولي، بدليل ان الفيتو الامريكي الاخير جاء معارضاً للقرارات الصادرة عن مجلس الامن التي استندت اليها المجموعة العربية في مشروع القرار الذي تقدمت به الى مجلس الامن وطالبت بصدوره تكملة للقرارات الصادرة المتعلقة بقضية الشرق الأوسط وكان اخرها القرار رقم 2231 الصادر في 7 اكتوبر 2001.

تقول كلمات مشروع القرار العربي في بدايته، والمقدم الى مجلس الامن والمرفوض من امريكا بالفيتو: «ان مجلس الامن يشير الى جميع قراراته السابقة ومن ضمنها القرار رقم 2231 الصادر في 7 اكتوبر عام 2001 الذي يؤكد على ضرورة ايجاد حل عادل ودائم وشامل في الشرق الاوسط، ويستند ايضا الى القرارين الصادرين منه، رقم 242 الصادر في 22 نوفمبر عام 1967، ورقم 338 الصادر في 22 اكتوبر عام 1973 المناديين بمبدأ الارض مقابل السلام».. ويؤكد مشروع القرار العربي المطلوب صدوره من مجلس الامن في متنه على «اهمية تحقيق الامان لجميع المدنيين في منطقة الشرق الاوسط، ويدين جميع اعمال العنف والرعب وما يترتب عليهما من ازهاق ارواح المدنيين من الفلسطينيين والاسرائيليين او الحاق الاصابات بهم. ويعرب مجلس الامن عن تصميمه على المساهمة في وضع حد للعنف وتشجيع الحوار بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني ويطالب بضرورة التزامهما بالاتفاقات المبرمة بينهما، ويؤكد على احترام اسرائيل لتوقيعها على اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحمامة المدنيين في زمن الحرب المؤرخة في 22 اغسطس عام 1949.

يصل مشروع القرار العربي الذي لم يصدره مجلس الامن، الى سبع نقاط هي: وقف اعمال العنف، ادانة جميع اعمال الارهاب ضد المدنيين، منع الاعلام بدون محاكمة وتدمير الممتلكات، البدء في تنفيذ توصيات لجنة ميتشل، الوصول الى اوضاع افضل في الاراضي الفلسطينية المحتلة، استئناف المفاوضات السلمية تحت مظلة قراري مجلس الامن 242 و338، متابعة مجلس الامن بابقاء المسألة الفلسطينية تحت انظاره.

اذا كانت امريكا تعطل مثل هذا القرار وتمنع صدوره من مجلس الامن باستخدامها الفيتو ضده، وهو يعبر تماما عما تعلنه من رغباتها في الوسط الدولي، وارسلت من اجله الى اقليم الشرق الاوسط الجنرال انتوني زيني ومساعد وزير الخارجية ويليام بيرنز، فان عليها ان تقدم للعالم سببا لتناقضها مع نفسها باستخدام الفيتو على قرار مجلس الامن، وهي لن تفعل ذلك حتى لا تفضح نفسها بانصياعها لرغبات اسرائيل.