في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي

TT

أنا لا أعرف كيفية رد فعل الناس بعد رؤية صور الأطفال الفلسطينيين والمدارس والمساجد والمستشفيات التي يقصفها الإسرائيليون من الجو والبر والبحر. أجد قلبي ينبض بسرعة، وأشعر بالدوار وأرى سحابة سوداء تتحرك أمام عيني. وحتى أكون صادقا، بسبب دموعي لا أستطيع أن أرى الأشياء بدقة كبيرة. أبحث عن ملجأ في الأغنية العظيمة لمارسيل خليفة! لقد استمعت إليها لأكثر من مائة مرة:

منتصب القامة أمشي

كلمات سميح القاسم، وصوت مارسيل خليفة هما ملجئي.

في كفي قصفة زيتون

وعلى كتفي نعشي

يروي إميل حبيبي في رائعته «المتشائل» قصة محمود درويش ووالدته عندما أجبرتهما مجموعات عسكرية على مغادرة وطنهم. حدث ذلك عندما كان محمود درويش طفلا وكانت والدته تعانقه عند مغادرة منزلها لكي تحمي ابنها من الرصاص. يقول إميل حبيبي، إن «ذلك اليوم كان بزوغ نجم جديد»!

ودون أي شك، يمكننا أن نشم رائحة سحر التعبير في بعض القصائد، مثل منتصب القامة أمشي!

إننا نعيش في زمن غريب. أنظر إلى طريق اتخذه صبيان في حياتهما: أحدهما نشأ ودرس في أميركا، ويتحدث الإنجليزية بلكنة أميركية، واسمه نتنياهو. الولد الآخر من مولدوفا، لغته الأم هي الروسية، هاجر إلى فلسطين وأصبحت فلسطين وطنه، ولكن الفلسطينيين الذين يعيشون هناك أجيال بعد أجيال لآلاف السنين عليهم مغادرة وطنهم لإفساح المجال لليبرمان ونتنياهو!

من الذي يمكن أن يقبل مثل هذا المنطق المعيب وذلك الادعاء؟

هذه كانت المرة الثانية التي قرر الجيش الإسرائيلي فيها اقتلاع الفلسطينيين من غزة. لماذا فشلوا في هزيمة الفلسطينيين في غزة في يوم واحد أو أسبوع؟

أود التركيز على هذه النقطة الحيوية. أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال يمكن العثور عليه في كيفية تعريفنا للحياة والموت، يبدو جليا أن تعريف الفلسطينيين للموت والحياة مختلف تماما عن الجانب الإسرائيلي. هنا يمكننا تحديد أسلوبين من أساليب الحياة والموت.

دعونا الآن نعود إلى قصيدة سميح القاسم. عندما يقول:

أمشي وعلى كتفي نعشي

فهو يتحدث عن أكثر الموضوعات ذات الأهمية الحاسمة في تاريخ البشر، موضوع الحياة والموت. لقد رسم لوحة فنية فريدة من نوعها باستخدام الكلمات، وألقى بجثة الشهيد على كتفيه! إنه يتحدث عن الموت، لكن عن الموت الذي هو مصدر الحياة الحقيقية!

وقال غيرشون باسكين، الرئيس التنفيذي ومؤسس مركز إسرائيل - فلسطين للبحوث والمعلومات لـ«سي إن إن»: «قال لي شخص تحدث إلى القسام، الجناح العسكري لحماس، إنه قبل بدء العملية البرية أمروا جميعا بالذهاب إلى أسرهم من أجل وداعهم، بنية أنهم لن يعودوا أحياء من هذه المعركة. هذه واحدة من أكثر الأشياء صعوبة فيما يتعلق بالقتال مع منظمة مثل حماس، وخصوصا هؤلاء الجنود المخلصين، هؤلاء المقاتلين الذين لا يهابون الموت، وذلك لإيمانهم بأنهم يموتون في سبيل الله، وفي سبيل الإسلام، وفي سبيل فلسطين، ويفعلون ذلك بكل فخر. هذا جزء من واجبهم في الخدمة التي يؤدونها ووراءهم دوافع كبيرة».

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا قبل الفلسطينيون هذا التفسير للموت والحياة بأجسادهم وعظامهم وقلوبهم؟

قبلوا ذلك لأن استراتيجية إسرائيل تقوم على أساس إهانة الفلسطينيين وإذلالهم. كما جاء في القرآن الكريم، أن هذه الاستراتيجية كان ينتهجها فرعون تجاه بني إسرائيل حيث قال الله تعالى: «فاستخف قومه فأطاعوه». إسرائيل تريد من الفلسطينيين أن يكون مثل الفأر، تلعب معهم، لتفرض قراراتها عليهم، ولتضعهم في قفص من البروتوكولات، ولتحبسهم وراء جدار لا نهاية لها. بيد أن حماس كسرت هذه الحلقة المفرغة. ووجدوا معنى جديدا للحياة والموت. أعتقد أننا لا يمكن أن نفسر حياتنا دون أن نستوضح معنى الموت.

من الواضح، أن الموضوعين متشابكان. مثل مرآتين، يمكننا أن نرى صورة كل مرآة من خلال الأخرى.

في الواقع انتصر الفلسطينيون في الحرب أخلاقيا ونفسيا. وفي بعض الأخبار، كان يقال إن بعض الجنود الإسرائيليين قد يطلقون النار على أجسادهم ليصيبوا أنفسهم حتى لا يكونوا قادرين على المشاركة في الحرب، ويعودون إلى ديارهم. أستطيع أن أفهم معتقداتهم ومبرراتهم. إنهم يريدون أن يبقوا على قيد الحياة ويتمتعوا بحياتهم. فكل شيء جاهز لهم لبناء حياة ممتازة. وعلى الجانب الآخر، يعد الموت بالنسبة للفلسطينيين الذين يرزحون تحت ويلات القمع بمثابة التحرر من زنزاناتهم المظلمة والضيقة، هو وقت الطيران بالنسبة لهم.

دعونا نتخيل أنفسنا كفلسطينيين للحظة. سنجد أنفسنا نعيش في أكبر سجن في العالم، في غزة. وفي كل ثانية تمر بنا، يختلج أنفسنا شعور بالمهانة. نشعر بأننا أمة بلا مستقبل. نشعر بأن وطننا احتله أشخاص آخرون، مثل ليبرمان.

نشعر بأن أميركا، الداعم الرئيس لإسرائيل وحاميها الأول، تظهر أنها تريد الدفاع عن حقوق الإنسان الخاصة بنا. على سبيل المثال، أدار جورج دبليو بوش كوميديا مؤتمر أنا بوليس في عام 2007، الذي تناول الوضع في فلسطين. وافق المؤتمر على قرار ينص على أن إسرائيل يجب أن تواصل المفاوضات المباشرة. وكان أول رد فعل لرئيس الوزراء الإسرائيلي هو رفض المهلة المحددة.

لا يوجد طريق آخر أمامك لإيجاد تفسير جديد للموت والحياة. تشعر بوحشة كبيرة في هذا العالم. أين أصدقاؤك ومؤيدوك، إلى أي محكمة عليك أن تذهب؟ يقول سميح القاسم:

لمحاكم التفتيش أشكو

كيف يمكنني وصف بحور الآلام من خلال هذه قصيدة! كيف يمكن أن نفسر دموع الأمهات والآباء الفلسطينيين الذين عانقوا أولادهم وصرخوا من قلوبهم؟ ليس هناك بد للفلسطينيين لحماية أنفسهم، ما لم يجدوا تفسيرا جديد للموت والحياة. ألا وهو:

وعلى كفي قصفة الزيتون

وعلى كتفي نعشي.