عنف الواقع وقسوة الدراما

TT

مشهد تابعه الملايين وأدمى قلوبنا على امتداد الوطن العربي، الرجل المسؤول عن إحدى دور رعاية الأيتام في مصر وهو ممسك بعصاه الغليظة ينهال بها بلا رحمة على أطفال من عمر الزهور، لم توقفه دموعهم ولا صرخاتهم، بالتأكيد سينال حكما قضائيا قاسيا، ولكن آلام الأطفال لا يعادلها أي عقاب في الدنيا.

الواقع كما نعايشه قاس ودموي وعنيف في الكثير من جوانبه، وهو ما يدفعنا للتساؤل مع زيادة مساحة الغضب في المجتمع، هل على الدراما أن تجمل الواقع وتغض الطرف عما نراه ونعايشه من قبح أم أن دورها الأساسي هو الفضح والكشف؟

تحولت الكثير من المسلسلات الدرامية إلى فاعل أصيل فيما وصل إليه حال الشارع، التحرش يراه البعض نتاجا طبيعيا لمسلسل رديء أو فيلم هابط أو رقصة خليعة، السرقة والقتل والاغتصاب وإدمان المخدرات وغيرها تبدو عند كثيرين وكأنها معادل موضوعي لكل ما تبثه الفضائيات، الجريمة هل تنتظر بالضرورة حافزا خارجيا يدفعها للانطلاق، مثلا أشهر قاتلتين في التاريخ المصري والعربي المعاصر ريا وسكينة أقدمتا على الجريمة البشعة وقتلتا العشرات بجوار قسم الشرطة في الإسكندرية قبل انتشار السينما واختراع التلفزيون. تحميل الدراما كل خطايا المجتمع يحمل قدرا من التسرع والاستسهال، هل تابعتم الكثير من الأعمال الفنية التي تناثرت فيها تلك النهايات الصارخة مثل المرأة التي تضع سم الفئران لأشقائها، أو الابن الذي حرق والده انتقاما، أو الشاب الذي طعن شقيقته، أو كل جرائم القتل التي ارتكبتها بطلات مسلسل «سجن النساء»، وغيرها من الفواجع التي كانت الطابع المميز لدراما رمضان، تعودنا في أفلامنا العربية الرومانسية القديمة أن تنتهي الأحداث بذهاب البطل والبطلة إلى المأذون أو أن نستمع إلى النداء الشهير بين البطلين «منى وأحمد»، وكل منهما يعانق الآخر في مشهد النهاية، ونغادر دار العرض ونحن مطمئنون وقريرو الأعين. الشاشة تغيرت وأصبح أحمد يدبر جريمة لقتل منى والعكس أيضا صحيح.

الكثير من المنظمات المدنية ومجالس قومية متخصصة لحماية المرأة والطفولة رأت في مثل هذه الأعمال اعتداء صارخا على أمن المجتمع وأمانه، وهناك أيضا الكلمات المتجاوزة والتي تجرح آذان ومشاعر الناس.

هل الشارع الآن هو نفسه الشارع في الخمسينات من القرن الماضي، يجب أن نضع في المعادلة مؤثرا جديدا ومختلفا بات له الدور الأكبر وهو مواقع التواصل الاجتماعي التي تحررت في السنوات الأخيرة من الكثير من القيود وسمحت بالتداول لكلمات كثيرة لم تكن تستسيغها الآذان من قبل، لا أنكر أن هناك من الكتاب والمخرجين من يسعى لاستثمار القبح في المجتمع من أجل أن يحقق رواجا مزعوما على الشاشة كل هذا أرصده، لكن لا أرى أن الحل ليس بتطبيق قواعد المنع والتضييق على الأفكار وغلق أبواب وشبابيك التعبير. الـ«يوتيوب» أسقط هذا السلاح تماما، ولا تنتظروا الكثير من ميثاق الشرف الإعلامي العربي الذي كنت شاهد عيان على الكثير من الدعوات التي وجهت لي في أكثر من عاصمة عربية ويبدأ الأمر بالحماس الشديد لإصداره، ونشعر ونحن في طريق عودتنا للمطار، وقبل أن نصعد للطائرة، أن الميثاق سوف يصدر خلال دقائق، ولكن كالعادة بعدها ببضعة أشهر أتلقى دعوة مماثلة من منتدى آخر من أجل إقرار ميثاق الشرف.

هل نغفل الواقع القاسي الذي نحياه ونبدأ في مطاردة ومصادرة الخيال، نهايات القتل والاغتيال على الشاشة، هي نتاج لعنف وقبح علينا أن نواجهه أولا في الشارع قبل أن نبدد طاقتنا في ملاحقة مستحيلة للصورة عبر الفضائيات!