الأكراد مفتاح الانفتاح في العراق

TT

بعد الانتفاضة الكردية إثر تحرير قوات التحالف الدولي الكويت عام 1991، انسحبت الإدارة العراقية من المناطق الكردية طوعاً في نهاية ذلك العام، متوقعة عدم تمكّن الأحزاب الكردية من السيطرة على الأمن والنظام، وآملة بانهيار الأوضاع العامة إلى درجة مطالبة الأكراد أنفسهم السلطة في بغداد بالعودة إلى كردستان. وكانت القيادة العراقية تمني نفسها بأن ذلك عندما يحصل «سيكون نهاية الحركة القومية الكردية، وإلى الأبد».

أخطأت القيادة العراقية، مرة أخرى، في حساباتها. فالذي حصل أن الأكراد استطاعوا بناء نظام إداري وإجراء انتخابات تشريعية وبلدية وإدارة برنامج «النفط مقابل الغذاء» في مناطقهم بطريقة ناجحة تخدم الأهالي. هذا بالرغم من الموقف المعرقل لدول الجوار، وزرع بذور الفتنة وعدم الاستقرار من قبل الأجهزة الأمنية العراقية، بما فيها إرسال المتفجرات إلى المدن الكردية ومحاولات عديدة لاغتيال الأجانب العاملين في منظمات الإغاثة العالمية التي تقدم المعونة الإنسانية للسكان مثل منظمات رفع الألغام الشخصية، هذه الألغام التي كان الجيش العراقي قد زرع حوالي 25 مليوناً منها في كردستان في الثمانينات أثناء الحرب مع إيران وكذلك مع الحركة الكردية المسلحة في الجبال. عمل الأكراد على تطوير الحريات الفردية والجماعية، وما يستلزم ذلك من حكم النظام والقانون وفسحة من الشفافية وترخيص نشاط الأحزاب والمنظمات غير الحكومية (NGO)، التي تساهم في تأسيس مجتمع يقترب من المجتمع المدني.

ساعد على تطور جوّ الحريات في كردستان فرض الحظر الجوي على المنطقة التي تحلّق فوقها الطائرات الأميركية والبريطانية، منطلقة من قاعدة إنجرليك، قرب الحدود العراقية ـ التركية.

وبينما ساعد هذا الحظر على تأمين استقرار أمني نسبي، وذلك بردعه أي عدوان محتمل تقوم به القوات العراقية على كردستان، فإن معارك الأكراد ضد بعضهم بعضا أعاقت تطور وتراكم هذه الحريات وأمن واستقرار الأهالي وحقوقهم. كانت الإدارة الكردية قد ورثت عن الإدارة العراقية المركزية تركة مخزية لا تشرّف حكومة كانت بحوزتها كل تلك الأموال الطائلة من عائدات النفط، لا لكي تصرفها على تنمية مستديمة لصالح المواطنين، وإنما على إثارة الأزمات والحروب الخارجية والداخلية وتصنيع أسلحة الدمار الشامل والأجهزة القمعية. ففي مدينة أربيل مثلا، والتي تعد رسمياً عاصمة العراق الثانية، وبعدد نفوسها الذي يقارب نحو المليون، لم تكن توجد، يوم انسحاب الإدارة العراقية، قنوات لصرف مياه المجاري الثقيلة، أو ملعب رياضي للشبيبة، أو حديقة يمكن أن يقضي فيها المواطنون أوقاتاً عائلية مريحة. انتظر الأهالي في المدن طويلاً لوصول هذه الخدمات الضرورية وغيرها، لتنجزها لهم الإدارة الكردية مما توفر لها من موارد محدودة، معظمها من التبرعات ومخصصات «النفط مقابل الغذاء». نشير إلى هذه المنجزات المحدودة للإدارة الكردية ليس تأييداً للأحزاب الكردية وقياداتها أو التغطية على نواقصها وأخطائها، فهي كثيرة بقدر كونها مؤلمة ومضحكة أيضاً، بل يتحدث عنها الأهالي في حياتهم اليومية بشعور من السخط، وفي مقدمتها عدم استعداد القادة لاحترام نتائج الانتخابات البرلمانية عام 1992، فهذه الإشارة للمنجزات هي لإعطاء صورة واقعية حول أهمية كردستان في إحداث التغيير الديمقراطي في العراق بشكل بناء وإيجابي. بخلاف المقارنات التي يوردها المحللون والصحافيون وغيرهم بين قوات تحالف الشمال في أفغانستان والوضع الكردي في الشمال العراقي، وحصرهم دور الأكراد في طليعة عمليات عسكرية بهدف إسقاط النظام في بغداد، كما حدث في أفغانستان، فإن بإمكان الأكراد تقديم مساهمة أكثر تحضراً ومدنية وإنسانية، من مجرد إعلان صيحة الحرب، وامتطاء متون الدبابات وإطلاق القذائف الصاروخية، كما فعل مقاتلو تحالف الشمال الأفغان وهم يتقدمون إلى المدن لطرد قوات «طالبان» و«القاعدة» منها. إن التجربة الكردية العراقية، جديرة بالدراسة والتأمل، فهي تجربة شعب صغير ومحاصر ومهدد بوجوده، عقد العزم على الخيار الديمقراطي لنفسه، في بلد مثل العراق يخلو من تقاليد الحوار وثقافة التسامح، بل أدت ظروف الديكتاتورية والحصار إلى تدمير طبقته الوسطى وما تمثله من أنوار وقيم المحبة والتضامن الإنساني.

ربما لم يبذل الأكراد الجهود المطلوبة للتعريف بما يحصل عندهم من التراكم الإصلاحي، لكن المؤكد أن المعارضة العراقية، بافتقارها الرؤية السياسية، لم تدرك أهمية وجود جزء من العراق، متحرر من الديكتاتورية ويخطو نحو الدمقرطة، كمنار يمنح جميع العراقيين الأمل والتطلع نحو الحرية. لم يحدث على مدى عقد من الزمن، هو عمر «المؤتمر الوطني العراقي» ان قامت هذه المنظمة بعقد ندوة أو مؤتمر أو نظمت نشاطاً خاصاً بتنوير الأهالي بشأن ما يحدث في كردستان. وعندما ندرك محدودية نشاط وشعبية هذه المعارضة داخل العراق، للقيام بنشاط من هذا القبيل، فإنه كان يمكنها على مدى كل هذه السنوات، وبما تملكه من أموال تردها من المساعدات التي تتلقاها من الولايات المتحدة الأميركية، تنظيم تلك النشاطات بين الجاليات العراقية في الخارج، ناهيك من تشجيع الكوادر العلمية والفنية بالعودة إلى الجزء المتحرر من العراق للمساهمة في الدمقرطة. ولاحتمال وجود تعقيدات سياسية، فإنه ليس صعباً حصر تلك الكوادر بالعلمية والفنية منها كما ذكرنا.

ان التضامن الأهلي والمصالحة الوطنية والدمقرطة التي يقوم بها الأكراد والتركمان والكلدان والآشوريون واليزيديون في شمال العراق، هو مثال يحتذى لما يمكن أن يقوم به العراقيون في أرجاء بلادهم الأخرى.

بل ان جو الانفتاح هناك، ينبغي له أن يبعث الأمل عند بقية العراقيين في إمكانية حدوث التغيير الديمقراطي.

أكبر عدو للتغيير هو اليأس، والأهالي في العراق، يشعرون باليأس من حكومة لا تشعر بالمسؤولية لكي تقدم على المراجعة والبدء بالإصلاحات والاعتراف بحقوق الأهالي والانسجام مع الجيران والعالم. كما أنهم أي الأهالي يشعرون باليأس من معارضة لا تملك الرؤية، وكذلك من الدولة الديمقراطية الأقوى في العالم (الولايات المتحدة الأميركية)، لأنها لا تتحدث إلاّ عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل والعقوبات والضرب والقصف. أما ما يبعث في النفوس الأمل، فيحفز على العمل، هو التضامن، قولاً وعملاً، مع شعب يتوق إلى الحرية ويتحرّق شوقاً إليها.

* وزير كردي سابق، رئيس مؤسسة «معهد العراق للديمقراطية» أربيل ـ العراق [email protected]