«داعش» والوهابية والإرهاب

TT

لا تكمن خطورة «داعش» في هذا التمدد الخاطف والمريب، ولا الفظائع التي ارتكبتها هذه الحركة المارقة على ثرى العراق والشام فحسب، بل الخطورة تكمن أيضا في تصفية الحسابات الفكرية تحت شعار التحذير من خطر «داعش»، كانت الموجة في البداية على أن الإخوان المسلمين هم أساس كل داء ومصدر كل علة، وأنهم ينبوع التطرف ومعين الإرهاب، خبت هذه الموجة قليلا بعد تمكن الجيش المصري بإرادة شعبية من السيطرة على مقاليد الحكم بعد حراك 30 يونيو (حزيران)، فتحولت الموجة هذه الأيام إلى السلفية بمسمياتها المختلفة والوهابية على وجه التحديد، ثم عقدوا المقارنات بين بعض أفعال «داعش» مثل هدم الأضرحة والقباب والمزارات وبين الأدبيات التي تقوم عليها السلفية وبالذات أقوال وأفعال الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، والتي في الحقيقة والفعل ركزت على تطهير الجزيرة العربية من لوثات الشرك والبدع، مدعومة بقوة سياسية صلبة بقيادة الرجل التاريخي محمد بن سعود، رحمه الله، فاكتسبت بسبب نقائها وصفائها شعبية ساحقة، جعلتها في مصاف الحركات التجديدية ذات التأثير الكبير. خلاصة هذه الهجمة على السلفية أو الوهابية أن «داعش» عبارة عن نسخة مطورة لتلك التي نشرها محمد بن عبد الوهاب وتلامذته.

إن أي دعوة أو فكر أو آيديولوجيا لا يصح أن تحاسب إطلاقا بسوء تصرفات أتباعها وسوء فهمهم للنصوص والأقوال، وإلا كان من لازمه تحميل الإسلام نفسه مسؤولية الإرهاب، فكل العمليات الإرهابية تبتدئ بيانات تنفيذها وتختم بآية كريمة أو حديث نبوي، ثم إن هناك انتقائية ماكرة مكشوفة؛ فهم يسلطون المجهر على تصرفات شاذة ويشيحون بوجوههم عن النسق العام، فمثلا جعلوا تصرفات «الإخوان» في عهد الملك عبد العزيز، رحمه الله، وسليلهم الذي احتل الحرم عام 1379 هجرية مقياسا للحكم على السلفية أو الوهابية، وتغاضوا متعمدين أن إحدى أدبيات «الوهابية» الأساسية في ضبط علاقة المحكوم بالحاكم هي في (السمع والطاعة في المنشط والمكره وأثرة علينا) وليس حمل السلاح ومقارعة الحكومات والخروج على الأنظمة، تناسوا أن العلماء الذين رضعوا من السلفية وعبوا من معين الوهابية منذ ثلاثمائة سنة وإلى الآن كانوا حصنا حصينا ضد البغاة والخوارج، ولهذا يعزى الاستقرار الكامل في مراحل الدولة السعودية الثلاث، وما اختل العقد السياسي في تاريخها إلا بسبب تهديدات خارجية أو بسبب نزاع سياسي «بيني» لا حركات خارجة عن النظام، وحتى حركة «الإخوان» في عهد الملك عبد العزيز والتي شكلت في إحدى المراحل تهديدا كبيرا للكيان هزمهم الملك عبد العزيز بجيش «متدين» رضع من لبان الوهابية وسانده علماء من سليل الإمام محمد بن عبد الوهاب نسبا وفكرا.

مؤلم أن هذه الطعنات ضد السلفية (السلفية هنا بمنظورها العقدي الشامل لا بإطارها الحركي المحدود) تأتي في وقت خسرنا في منازلات كثيرة مع إيران التي تشكل أحد عناصر التغلب عليها المحافظة على الآيديولوجيا لا محاولة تفتيتها بسبب صراعات فكرية ضيقة، إن الذي يتلاعب في أصول عقيدته وتشريعاتها ومرجعيتها مثل الذي يلعب في أساسات داره، «لا يلومن إلا نفسه إن سقطت عليه وعلى أهل بيته».