مصر.. لماذا يستهدفونها؟

TT

يدلنا التاريخ على أن مصر كانت دائما، ولا تزال، مستهدفة من قبل قوى كثيرة على مر العصور، ويقول د. جمال حمدان في كتابه «شخصية مصر» إن «مصر هي قلب العالم العربي، وواسطة العالم الإسلامي، وهي تجمع أطرافا متعددة، مما يجعلها (سيدة الحلول الوسطى)».

من هنا، فإن العرب بدورهم مطالبون دائما بالوقوف مع مصر، لا من أجل مصر فحسب، إنما من أجل الأمن العربي. وفي الانتخابات الرئاسية المصرية الأخيرة، التي فاز فيها المشير عبد الفتاح السيسي، كان أول من اتصل به يهنئه على هذا الفوز في الانتخابات هو خادم الحرمين الشريفين، ولم يكتفِ بذلك، إنما في اليوم الثاني بعث خادم الحرمين الشريفين رسالة للرئيس عبد الفتاح السيسي يؤكد له فيها دعم المملكة العربية السعودية ووقوفها اللامحدود مع مصر، لإدراكه دور مصر، وأنها قلعة العروبة، وها هي اليوم مصر تستعيد دورها العربي السياسي، حيث تقوم بمبادرة على أعلى المستويات لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، في مكالمة هاتفية بين الرئيس السيسي والرئيس الأميركي أوباما، ودخلت السعودية على الخط في هذه الجهود مع مصر لإيقاف الغزو الإسرائيلي، ووقف نزف الدم الفلسطيني في غزة، وجرى تحقيق هدنة عبر وساطة غير مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ورغم أن الهدنة استمرت لمدة 72 ساعة، فإنها تؤكد على أن مصر تخوض جهودا سياسية من أجل فلسطين، ولا تزال.

ولذا لسنا بحاجة في هذا السياق للتذكير بدور مصر تجاه قضايا العرب الأخرى، وخاصة القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى، فلقد خاض الجيش المصري مع الجيوش العربية الأخرى عدة حروب، وآخرها حرب السادس من أكتوبر 1973، من أجل فلسطين، هذه الحرب التي عادت فيها الروح للإنسان العربي، والتي سقطت فيها أسطورة أن الجيش الإسرائيلي جيش لا يُهزم.

ويدرك الأعداء قبل الأصدقاء دور مصر، وأنه لا أمل للعرب في التماسك والتقدم والقوة من دون مصر، وأنها معين لا ينضب من العطاء الحضاري العريق في كل ميادين المعرفة الإنسانية أكثر من إدراك بعض العرب (للأسف) لهذه الحقيقة. وإصرار مصر على استمرار جهودها لوقف الغزو الإسرائيلي لغزة يُعدّ في حد ذاته إنجازا دبلوماسيا لها، بعد الثورة الثانية، 30 يونيو (حزيران) 2012.

ورغم ما لحق بمصر من حركة حماس من أذى تمثل في دعمها للجماعات الإرهابية في سيناء، وفي صحراء النقب، وقُتل فيها كثير من الجنود المصريين، لا تزال هذه الجماعات تقوم بأعمال العنف والإرهاب في مصر، ودعم حماس كذلك للإخوان المسلمين، عند اعتصامهم في ميدان رابعة العدوية أثناء الثورة الثانية في 30 يونيو 2012، حيث شاركت عناصر من هذه الحركة في هذا الاعتصام، إلا أن مصر، كعادتها، عفت عما سلف، ولملمت جراحها، وقامت بدورها العربي تجاه الفلسطينيين، لأنها تدرك أنها أكبر من أن تتخلى عن دورها، وأن عليها واجبا قوميا، وفي الوقت نفسه، ولأول مرة، جاء الفلسطينيون في المفاوضات الجارية الآن في وفد موحد أوجد نوعا من الوحدة الوطنية والسياسية بين المنظمات الفلسطينية.

وهناك محاولات فشلت قامت وتقوم بها بعض الأطراف الإقليمية، التي تمارس ضغوطا على حركة حماس لكي ترفض المبادرة المصرية، وبالفعل جرى رفض حماس للمبادرة المصرية في البداية لصالح هذه القوى الإقليمية، خاصة تركيا وإيران، وهذا ما جاء في تصريح من مصدر مقرب من الوفد الفلسطيني المشارك في المفاوضات التي جرت في القاهرة، حيث قال: «إن سلوك حماس في المفاوضات والمثبت في خطابها الإعلامي الموجه يؤكد سعيها لإفشال دور القيادتين الفلسطينية والمصرية لصالح قوى إقليمية كانت قد حاولت استخدام الدم الفلسطيني، لمجرد تأكيد حضورها وفاعليتها في الإقليم، ولتصفية حساباتها مع مصر».

وهناك دور آخر لبعض الدول الكبرى، الذين يأتمرون بالعمل على تفتيت الأمة العربية وزرع الوهن بها، ولقد جاءت كل هذه الضغوط على مصر منذ قيام الثورة الثانية فيها لإدراكهم الدور المصري. تقول هيلاري كلينتون في كتابها عن مذكراتها عندما كانت وزيرة للخارجية، الذي طُرح مؤخرا باسم «كلمة السر 360»: «دخلنا الحرب العراقية والسورية والليبية وكل شيء كان على ما يرام وجيدا جدا.. وفجأة قامت ثورة مصر (30/ 6) ثم في (3/ 7) كل شيء تغير خلال 72 ساعة في مصر...». لقد جاء في هذا الكتاب الكثير عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي كانت تسعى إليه أميركا منذ غزوها للعراق، وأنصح بقراءة هذا الكتاب.

ونذكر حماس والمنظمات الفلسطينية الأخرى التي تسير على نهجها بأن عليهم في مثل هذه اللحظات من التاريخ أن يدركوا من الذي قلبه على فلسطين، وماذا يُحاك لهذه الأمة، ومن الذين يتخذون من الدفاع عن قضية فلسطين مجرد شعارات جوفاء لتحقيق أهدافهم الخاصة.. أين إيران و«فيلق القدس»؟ أين «حزب الله» الذي يقاتل الآن مع النظام السوري ويذبح إخوتكم العرب في سوريا ولبنان والعراق؟ أين تركيا التي يقودها إردوغان، الذي يهدد مصر بين لحظة وأخرى؟ أين كل هؤلاء من الذي يجري من مذابح في غزة؟ على حماس أن تعرف أن إسرائيل ما كانت لتقوم بمثل هذا العدوان لولا استغلالها لهذا الظرف المناسب، الذي جرى توفيره لها من قبل إيران و«حزب الله» وتركيا!

إن قراءة موضوعية لما آلت إليه الأوضاع في منطقتنا العربية، بعد إخراج مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني، تشير إلى أن خريطة جيواستراتيجية كادت تتشكل في المنطقة، لولا عناية الله، ولا تصب قطعا هذه الخريطة في خدمة القضايا العربية الكبرى، فالمستفيد الأكبر منها إسرائيل، والخاسر الأكبر هم الفلسطينيون.

إن وزن مصر وثقلها وموقعها في خارطة الصراع لم ولن يستطيع أحد تعويضه أو ملأه، وهذه حقيقة مؤكدة لا يستطيع أحد إنكارها.