الحرب القادمة في غزة!

TT

هل يمكن التنبؤ بحرب قادمة في غزة؟ الإجابة هي نعم قاطعة، لأن ذلك كان ما جرى خلال عقد كامل تعددت فيه الحروب الإسرائيلية في غزة وفق سيناريو بات مألوفا لكل من تابع العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. وكما قال مسؤول أميركي: «إن جميعنا كنا هناك من قبل، نعرف أن نقاط الاشتعال دوما جاهزة، وأن النار تأتي من مستصغر الشرر، وأن إسرائيل جاهزة دوما لحرب جوية يتلوها غزو شامل مع عجز كامل عن القضاء على المقاومة، وهنا تكتفي إسرائيل بتدمير غزة، وإبادة مئات ثم آلاف من الفلسطينيين، وتجري عمليات الاستنكار والشجب بسرعة على المستويات الدولية والإقليمية، وينتهي الأمر بتدخل القاهرة لكي تصل إلى وقف لإطلاق النار مصاحبا بانسحاب إسرائيلي، وبعدها تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه في انتظار الحرب القادمة».

جينات الحرب موجودة مع بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وببساطة فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي يحمل في جوفه بدايات الحرب، المهم أن تأتي المناسبة، أو يفلت عيار واحدة من المنظمات الفلسطينية، أو يشعر طرف أن لديه ما يكفي من القوة لوضع نهاية لحالة غير مستقرة. هناك آليات تعمل في الواقع تجعل الحرب القادمة ليست فقط ممكنة، ولكنها حتمية. هناك شعب فلسطيني عاش الاحتلال لوقت طويل من ناحية، وفوق ذلك فإن عدده يتزايد بسرعة كبيرة. هذا النمو السكاني يجعل الشعب الفلسطيني صغير السن وشابا، وحينما يكون الحال كذلك فإن الاستعداد للمخاطرة والمغامرة والتضحية يتزايد. الأهم أن الأدوات المتاحة للمواجهة حتى مع قوة إقليمية عسكرية عظمى يصبح ممكنا، حفر الأنفاق لم يعد على صعوبته السابقة، وتستطيع إسرائيل أن تبني حائطا ضخما ومانعا، أو هكذا يبدو، ولكن الحركة أسفله لم تعد مستحيلة. وفوق ذلك أن الحركة من فوقه أيضا من خلال الصواريخ ليس أمرا صعبا، ومن الجائز أن الفلسطينيين كانت لديهم مشكلة مع وسائل التوجيه، ولكن هذه تأتي بالعلم والتجربة، ومن الجائز أن «القبة الحديدية» خلقت مانعا أمامها، ولكن لكل قبة شفرة حرارية أو معدنية أو ضوئية أو شيء ما يمكن التشويش عليه عن طريق صواريخ مصنوعة من مواد مخلقة. تاريخ الحروب كلها بين وسائل للهجوم ووسائل للدفاع وبين هذه وتلك يجري سباق تكنولوجي واستراتيجي. هكذا كانت الحرب في غزة، وهكذا سوف تكون.

ولكن لا توجد ضرورة لكي يكون هذا هو المسار، هناك طريق مختلف ينتج عادة عن الحروب والمواجهات العسكرية، وهي أن تبدأ محاولات جادة للتسوية تنهي التناقض التاريخي الذي أدى إلى الحرب في المقام الأول؛ ببساطة حل معادلة الصراع العربي والفلسطيني - الإسرائيلي التي طالت قرنا وعقودا من الزمان. هنا لا نبدأ أبدا من فراغ، فقد نزعت عن الصراع «وجوديته» التي ينفي فيها كل طرف الطرف الآخر، وجرى الاعتراف المتبادل، وهناك سلسلة طويلة من الاتفاقيات والمحاولات التي بدأت في «أوسلو» - وقبلها وبعدها اتفاقيتان للسلام بين مصر والأردن من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى - وانتهت عند ما عرف بتفاهمات كلينتون. هذه يضاف لها تفاصيل متقدمة جرت في مفاوضات أولمرت مع أبو مازن، وتسيبي ليفني مع أبو العلاء، ولمن يريد هناك وثيقة جنيف، ووثيقة أخرى في طابا. كل ذلك يجعل محتويات التسوية متاحة، ولكن أهم ما فيها هو أن تجنب التسوية سوف يعني فورا انتظار حرب لا يخرج منها أحد ناجيا أو منتصرا، وببساطة لن يكون الشرق الأوسط أبدا مثل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية التي باتت آخر الحروب العظمي. وإذا كانت الحرب سوف تمثل العقاب لأطرافها، فإن هناك ما يمثل المكافأة ممثلة في مبادرة السلام العربية التي عرضتها المملكة العربية السعودية وتبنتها القمة العربية عام 2002. البديع في هذه المبادرة أنها لا تحل الصراع العربي - الإسرائيلي فقط، بل إنها تجهز لبنية إقليمية جديدة تراعي الأمن والازدهار لكل الأطراف. وربما لو أن هذه المبادرة جرى تنفيذها في توقيتها، لتجنبت المنطقة أهوال ما جرى فيها من فوضى وحروب وتطرف وإرهاب.

ولكن «لو» دائما تفتح الباب لعمل الشيطان، وكما أن الشيطان يكمن في التفاصيل فإنه يعيش في تيارات تحتية قلبت المنطقة رأسا على عقب خلال السنوات القليلة الماضية. الحقائق المجردة تقول إن بقاء الأمور على ما هي عليه سوف يكون نتاجه حربا أو حروبا أخرى، ولكن الحروب لم تعد تحدث بين دول تندفع بعد القتال إلى طاولات المفاوضات، ويمثل كل طرف سلطات مسؤولة بشكل أو بآخر أمام شعوبها، وأمام دول العالم الأخرى. حروبنا الجديدة ليس لها عنوان يمكن إرسال الرسائل له، أو دعوات التفاوض، وفيها من الأطراف على اليمين واليسار من يعشق الدمار ويعتبره أكثر علامات النبل والسمو ودخول الجنة. كل ذلك يعمل في إطار لا يعرف الردع، ولا يعرف حدودا لاستخدام القوة، والنظام الدولي بالنسبة له حالة معادية، سواء كان معبرا عنه بالأمم المتحدة التي لا تحبها إسرائيل ولا تعشقها حماس، أو معبرا عنها عن طريق توازن القوى الكبرى والعظمى الذي لم يعد الشرق الأوسط قضيته وإنما أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي. الشرق الأوسط ببساطة بات منطقة فوضى غير مفهومة، القتل فيها يجري على قدم وساق ذبحا وقصفا، تقلصت الهويات الوطنية، ولم يبق إلا أشكال مختلفة من الإزاحة. هل كان ممكنا خلال الأسابيع الماضية التمييز ما بين أشكال العنف في غزة وتلك التي كانت تجري على قدم وساق في سوريا وليبيا والعراق والصومال وامتداد كل منها في لبنان والأردن والجزائر ومصر وتونس وفي المحيط الإقليمي في مالي وتشاد؟

لم يكن الفارق شاسعا إلا في عدد القتلى والجرحى والمنازل المدمرة وعدد اللاجئين والنازحين وعدد بيانات الشجب والاستنكار. وإذا كان ذلك كذلك فإن حل المعضلة العربية الإسرائيلية في تفاصيلها المختلفة لن يكون لها حل إلا ضمن إطار حل إقليمي يتعامل مع أوضاع المنطقة كلها، ويحميها من التطرف والغلو ونوبات العنف والقتل والتدمير ويضع مكانها ثقافة جديدة للبناء والتعمير ليس انتظارا لحرب قادمة وإنما إقامة مستقبل جديد. لا يوجد في الذهن أمر آخر غير المبادرة العربية يمكنه أن يأخذنا في طريق آخر وإلا فإن حرب غزة القادمة يجري صنعها الآن من خلال حلول وقتية ترفع ضغط المعارك والمشاهد المروعة والأجساد النازفة عن المنطقة والعالم، وبعدها سوف يجد طرف ما في وقت ما أن هناك فرصة لكي يعدل موازين القوي فإذا بها تؤدي إلى انهيارها. المسألة هي إما أن يكون هناك نظام للحرب كما نعيشه، أو يكون هناك نظام للسلام أو التسوية يجعل العيش ممكنا.