البحرين تحاول معالجة تشوهات مولودها ولا تئده

TT

الخميس السابع من أغسطس (آب) 2014، صدق عاهل البحرين على إجراء تعديلات على بعض أحكام «قانون الجمعيات السياسية» (الأحزاب)، أهمها المادة رقم 10 التي تنص على التالي «ألا تستخدم الجمعية المنبر الديني للترويج لأهدافها أو مبادئها أو برامجها أو كمرجعية لها»، وهي تعديلات وضعت بعض الضوابط على ممارسة الحق الدستوري للمواطنين بتأسيس الأحزاب في مملكة البحرين، مما يدل على أن تلك الضوابط لم تكن موجودة منذ عام 2005؛ أي العام الذي صدر فيه هذا القانون، وأن الأحزاب السياسية كانت معفاة من هذا القيد حتى قررت السلطة التشريعية وضعها عام 2014.

ساد التخبط التجربة الديمقراطية البحرينية في التعاطي مع هذا الحق الدستوري، فلم تكن المجموعات الناشطة سياسيا في المجتمع البحريني بقادرة على اللعب ضمن إطار دستوري يحدها، فوضعت لها ضوابط اللعب السياسي وهي التي كانت قبل سنة فقط من إشهارها قوى تهدف إلى إسقاط الدولة، فكيف لها أن تتحول بذات الشخوص إلى شريك في إدارة الدولة خلال أشهر معدودة؟! كانت مجموعات تعيش في المنافي أو في السجون تعمل على (تحرير) الدولة من الحكم الخليفي، وحين عادت من منافيها بعد العفو العام شكلت أحزابها على الفور وحتى قبل صدور قانون ينظم ويضع ضوابط تشكيل الأحزاب، والدولة من فرط رغبتها في فتح الصفحات الجدد وافقت وأعطت الترخيص قبل صدور القانون! فجأة، وجدت تلك الشخوص نفسها أمام استحقاقات إدارة الدولة التي كانت تعمل على إسقاطها، بلا خبرة وبلا بوصلة.

فما بين صدور الميثاق الوطني والدستور المعدل وصدور القانون المنظم للعمل السياسي ثلاث سنوات، منحت الحكومة خلالها لأكثر من «مجموعة» ترخيصا بتأسيس أحزابهم السياسية، من بينهم «جماعة الولي الفقيه» و«جماعة الإخوان المسلمين» و«جماعة السلفيين» وفلول الأحزاب الشيوعية، فكانت تلك التراخيص بواكير التشوهات الخلقية في النمو الديمقراطي.

وحين صدر القانون عام 2005، حظر تأسيس الجمعيات (الأحزاب) على أسس طائفية، لكن الأحزاب كانت قد تشكلت، والتراخيص قد منحت، والدولة ولحسابات غير مفهومة تركت تلك المخالفات على حالها ولم يتحرك وزير العدل ضمن اختصاصه ويستدعي القائمين عليها ليطالبهم بتعديل أوضاعهم، وبقيت على حالها أحزاب سياسية بحرينية، معاركها تدار فيما بينها من على منابر المساجد، أحزاب لا تؤمن بالدولة بقدر إيمانها «بالأمة»، أحزاب رغم أن تراخيصهم تستظل بالدستور البحريني فإنهم يستظلون بالقوانين والاتفاقيات الدولية ولا يعترفون بالقوانين المحلية، أحزاب عاشت مخاض الديمقراطية بلا عقلية ديمقراطية وبلا تربية ديمقراطية.

المفارقة الأكبر أنها رغم كونها أحزابا أسستها جماعات دينية تتدثر بالإسلام شعارا، فإنها قبلت وحللت وشرعت التحايل على القانون ومع سبق الإصرار والترصد، فرغم أن النظام الأساسي لتلك الجمعيات ولائحتها الداخلية خاليين من أي نص يوحي بأن عضوية الجمعية قاصرة على أتباع طائفة أو مذهب أو عقيدة دينية معينة، فإن الواقع الذي يعرفه أصغر طفل بحريني أن كل حزب من هؤلاء لا يضم إلا أتباع مذهبهم، ومما يلفت النظر هنا قابلية هذه الجماعة للتحايل والغش والتدليس و«السبتية» (وهو وصف للحيلة التي التف بها اليهود على التحريم الرباني للصيد يوم السبت، فقاموا بوضع الشباك يوم الجمعة ليلة السبت لتجمع السمك لهم وتحجزه طوال الليل، حتى إذا ما جاء السبت جلسوا في بيوتهم بادعاء أنهم لا يصيدون!).

تسبب تقاعس الدولة عن إنفاذ القانون، وتحايل هذه الجماعات على القانون في تشوهات خلقية في البنية الديمقراطية خلال العشر سنوات من عمر تلك الأحزاب الثلاثة الكبيرة، فلم تتحرك تلك المجموعات ضمن إطار دستوري لتدير خلافاتها حول إدارة الدولة بالأدوات والآليات التي سنها الدستور، بل وظفت تلك الأحزاب الأدوات الدستورية لإدارة خلافاتها العقائدية، فولدت لنا مسخا ديمقراطيا يحكم توزيع الخدمات الحكومية، ويحكم اختيار ممثلين نيابيين أو بلديين، ويحكم التشكيل الحكومي، ويحكم الأعمال النيابية وفقا لانتمائه الطائفي.

ثم زاد الطين بلة حين انقسمت الجماعات الشيعية المختلفة عقائديا كالشيرازيين، وخط الإمام، والإخباريين، إلى أكثر من حزب سياسي، كما فعلت الجماعات السنية بين إخوان مسلمين وسلفيين، وحين جاء وقت الاستحقاق السياسي، أي وقت انتخابات المجالس النيابية والبلدية، دارت في البحرين مواقع للجمل ومواقع لكربلاء، احتار فيها الشعب البحريني في اختيار نوابه وممثليه بين معسكر ليزيد ومعسكر للحسين! وحين تشكل المجلس النيابي بهذين المعسكرين، دارت المعارك مع السلطات على أساس أنها من المعسكر اليزيدي! بل تمت إدارة الخلافات السياسية من على المنابر لا تحت قبة البرلمان، فالتعديلات الدستورية أصبحت ركنا من أركان خطبة الجمعة في المساجد، ومراقبة أداء السلطة التنفيذية في خطبة الجمعة تأتي من بعد الصلاة والسلام على رسول الله أما بعد.. حتى إذا ما جاء الربيع العربي اعتلى المنابر قواد (الثورة) وعاثوا في الأرض فسادا، ومن بعد الصلاة على الرسول الكريم دعي من على منابر للتظاهر والاعتصام ودعي لسحق رجال الأمن، وحلل استخدام الحجارة والمولوتوف والاصطدام بالحواجز الأمنية، ودعي لصيغ دستورية معينة تفرض على الدولة ماذا وإلا... فمات من رجال الأمن أكثر من 15 ومن المدنيين أكثر من 100. هكذا، تحول «رجال الدين» إلى قادة للميليشيات العسكرية، وقادة لأحزاب سياسية، وذلك استخدام مشوه لدعائم الديمقراطية من حريات وحقوق، بل تمادت التشوهات حتى وصلت إلى أن تُسقِط تلك الأحزاب الخطوط «السيادية» الحمراء للدولة، فأجرى قادة تلك الأحزاب، وهم رجال دين، المحادثات واللقاءات والاتفاقيات مع حكومات أجنبية عن طريق سفرائها أو مبعوثيها الذين يأتون لزيارتهم في مقراتهم فورا وقبل زيارة مسؤولي الدولة، كما فعل نائب وزير الخارجية الأميركي الذي طردته مملكة البحرين من أراضيها، ودارت رحى معارك نيابية تحت قبة البرلمان على خلفية إصدار بيان إدانة لاعتداء الحوثيين على أراضي المملكة العربية السعودية بين معسكر معارض ومعسكر مؤيد للبيان، ووظفت زيارات الوفود البرلمانية البحرينية في الخارج لتقديم طقوس الولاء للمرجعيات الأجنبية كما فعل نائب في البرلمان البحريني حين قبّل يد أحمدي نجاد معرفا نفسه بـ«خادمكم» في محفل دولي!

أصبحت الجماعات الدينية دولة داخل الدولة، بمرجعياتها، بامتدادها الأممي عن طريق ومن خلال الأدوات الديمقراطية. صحيح أن المواطن البحريني امتلك «نصا» أدوات ديمقراطية تمكنه من تحقيق إرادته في إدارة موارده الطبيعية ومراقبة سلطاته، لكنه وظفها في إدارة (كربلائه) الجديدة لعام 2014.

إنما عسر المخاض وتشوهات المولود لا يعنيان أن البحرين ستتراجع، فالمجتمع البحريني ونظام الحكم مصممان على معالجة تشوهاته وإكمال المسيرة، لذلك حصرت المعالجة بتعديلات على القانون ولم تلغه؟