إردوغان والرئاسة.. المفاجأة المتوقعة!

TT

لو عدنا إلى الوراء قليلا، أي إلى سنة 2002 بدايات الصعود القوي لإردوغان، فسنجد أنه شكَّل آنذاك مفاجأة، لما مثَّله من تجربة سياسيَّة ذات خلفية دينيَّة إسلامية ناجحة، ناهيك بخطابة الرجل وتمكنه من إيصال فكرته.

لذلك اعتبره البعض مصدر قوة يمكن أن يمثل أنموذج نجاح للإسلام السياسي القادر على إشباع التوقعات الاقتصادية، وخوض اللعبة الديمقراطية باقتدار.

ولكن فوزه الحالي بمنصب الرئاسة في تركيا يمكن توصيفه بأنه مفاجأة لا غير. أي أنها لم تكن بالمفاجأة السارة بالنسبة إلى الكثيرين من المراقبين والمتابعين للشأن التركي.

فما الذي يجعل من فوز إردوغان مفاجأة غير متوقعة ابتهجت بها الأحزاب الإسلامية في البلدان العربية؟

في الحقيقة، مثَّلت الفضائح التي عاشها حزب العدالة والتنمية نوعا من الدعاية المضادة للحزب ورموزه وقياداته، وخصوصا أنها فضائح ذات صلة بموضوع الفساد الذي من شأنه أن يُطيح بأكثر السياسيين شعبية ومصداقية.

من جهة أخرى، تواترت أحداث على امتداد الأشهر الطويلة الأخيرة مكرسة صورة إردوغان المعتدي على الحريات والمستبد، بل والمتراجع في أدائه السياسي، بمعنى أن الأزمات التي عاشتها حكومته جعلت سلوكه السياسي ينحرف ويظهر في صورة غير الديمقراطي، وخصوصا في موقفه من الاحتجاجات الشعبية وقمعه لانتقادات وسائل الإعلام ضده.

إن الأزمات السياسية التي عاشتها حكومته والتي أثارت موجات من الغضب داخل تركيا وعلى مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، جعلت الكثير يتوقع أن شعبية إردوغان قد أفلست، وأن مستقبل الرجل السياسي أصبح مشكوكا فيه، لا سيما أن الأزمات التي عرفها حزبه وحكومته تستهدف مصداقيته وشفافيته السياسيّة، وفي تنافر عميق مع طموحات الأتراك في مجال الحريات وحقوق الإنسان.

ولكن الأتراك صنعوا مفاجأة باختيار إردوغان رئيسا لهم ومن الجولة الأولى وبنسبة تقدر بـ 51.8 في المائة، وذلك في أوج موجة الانتقادات ضده. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أنه أول رئيس تركي يفوز بانتخابات مباشرة من قبل الشعب، فإن فوزه يصبح بمثابة جائزة سياسيّة أو تتويج لأدائه في منصب رئاسة الوزراء منذ 2002.

وفي هذا السياق، يمكننا أن نستنتج أن فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية وفوز رمزه الأول بالرئاسة، يعنيان أن الفعل السياسي في تركيا سيكون أكثر «إردوغانية» من ذي قبل.

صحيح أن الشعوب دائما تصنع المفاجآت، وأن صندوق الاقتراع أشبه ما يكون باللعبة السحرية التي كثيرا ما تكشف عن اتجاهات الشعوب غير المتوقعة، ولكن مع ذلك لا شيء فوق التفسير والفهم. فنحن أمام دولة إقليمية يحكمها حزب ذو خلفية إسلامية تمكّن من النجاح المتتالي في سياق يعرف فيه الإسلام السياسي أفولا وتأزما، وأيضا في ظرف عالمي حقوقي ينظر إلى كل سياسي يتطاول على الحريات، ويضيق الخناق على الإعلام بعين الريبة والتوجس، وأحيانا يتم العمل على عزله دوليا بشكل تدريجي.

فكيف تمكن إردوغان من القفز على هاتين الساقين وتجاوز تداعيات أزماته الأخيرة وكأن شيئا لم يكن؟

لا شك في أن إردوغان في السنتين الأخيرتين قد تراكمت أزمات حكومته، ولكن ما جعل الشعب التركي يرى فيه الأفضل لرئاسة تركيا مقارنة بمنافسيه، هو أن الرجل يكتسب تأثيره ونفوذه السياسي من كيفية إدارته للشأن الاقتصادي ومن المكاسب الاقتصادية التنموية التي حققها في تركيا، وانعكست على الواقع الاقتصادي اليومي المعيش للمواطن التركي. ذلك أن إردوغان «النهم» اقتصاديا لم يضع يده كما فعل قادة الأحزاب الإسلامية في بلداننا مع جماعات الانغلاق، بل وضعها في يد رجال الأعمال وأسس علاقة تفاعلية بين حزبه ورأس المال التركي، فكانت التنمية الاقتصادية التي غطت على أخطاء إردوغان السياسية والحرياتية، بل إن بعض الاحتجاجات كان سببها بعض مشاريعه الاقتصادية نفسها وإيثاره تنفيذ مشاريع تنموية ضخمة على التجاوب مع احتجاجات ذات مضمون ثقافي تاريخي (مثال قرار حكومة إردوغان منذ أكثر من عام بهدم حديقة «جيزي» وتحويلها من معلم تاريخي إلى منطقة تجارية سكنية، وهو ما أثار موجة قوية وعنيفة من الاحتجاجات).

لذلك فإن الابتهاج الذي أظهرته الأحزاب السياسية الإسلامية في بلداننا بسبب فوز إردوغان، هو ابتهاج يتعامل بسطحية مع الحدث، ويغفل عن حقيقة أنه لا شيء يجمع الإسلام السياسي في بلداننا بحزب العدالة والتنمية التركي. فهو وإن كان يمتلك خلفية دينية إسلامية، فإنه حزب عرف كيف يهضم فكرة العلمانية جيدا واستنادها إلى تبجيل ما هو آني ودنيوي، فكانت النتيجة فهما مبدعا للمسألة الاقتصادية.

لقد فاز إردوغان لأسباب اقتصادية محضة؛ ذلك أن الاقتصاد هو المحدّد لفوز السياسي من عدمه، وهو المحرك الأول لأصوات الناخبين.

نقول هذا الكلام ونحن نعتبر فوزه محاطا بالألغام، وأن أزماته نائمة إلى حين تحت الرماد، وخصوصا أن دعم إردوغان لحركات «الإخوان» في البلدان العربية الإسلامية لن يجنبه دفع الفاتورة الاقتصادية الباهظة، لأن في موقفه من ملف «الإخوان» خسارته للأسواق العربيّة.