القناع الحائر

TT

لكي لا أطيل على القارئ حيرته؛ فالقناع الحائر هو قناع مومياء السيدة الجميلة كانفر التي عاشت منذ 3200 سنة تقريبا، ودفنت في سقارة بجوار هرم جدها الأكبر زوسر؛ المعروف بالهرم المدرج. والقناع ليس من الذهب أو من الأحجار الكريمة، لكنه قناع بديع ملون على طبقات من الكتان المغموس في الجص؛ وهو تحفة فنية من مخلفات حضارة عظيمة لا تزال باقية رغم تكالب الكوارث عليها.

والقناع في الواقع ليس حائرا، فهو قابع ومستقر في متحف مدينة سانت لويس الأميركية! أما الحائر هنا فهو دم هذا القناع الذي تفرق ما بين مسؤولي المتحف بسانت لويس، والقضاء الأميركي، والمسؤولين عن الآثار في مصر.. فمن هو الجاني الحقيقي وراء خروج القناع من مصر؟ لا أحد يعرف.. لكن المؤكد أن القناع سرق في الطريق ما بين سقارة والمتحف المصري بالقاهرة، وذلك بعد كشفه بسنوات على يد العالم الأثري المصري زكريا غنيم.. حيث خرج القناع من سقارة للمتحف المصري ليتم إعداده للخروج في معرض لليابان لبضعة شهور بعدها يعود مرة أخرى لسقارة، لكن القناع أبدا لم يعد مرة أخرى إلى سقارة!

وبعد سرقة القناع بسنوات ظهر بأميركا في معرض تحف يدعى «فينوكس آرت» بنيويورك بعد شرائه من تاجر عاديات أرمني، وقرر مسؤولو متحف سانت لويس شراء القناع؛ ولكي يطمئن قلبهم؛ أو لنقل لكي يقنعوا أنفسهم بأنهم عملوا الواجب المفروض عليهم، أرسلوا خطابا إلى مدير المتحف المصري في ذلك الوقت - الدكتور محمد صالح - برغبتهم في شراء القناع.. وبدلا من أن يكون الرد صارما، حازما، من نوعية «هذا قناع مصري قديم مسروق نطلب استرداده»؛ وصلهم رد يقول «اعملوا اللي انتو عايزينه.. ليست لدينا معلومات عن القناع»!! ولم يتردد مسؤولو المتحف واحتفظوا بالجواب في أرشيفهم طيلة سنوات لعلمهم بأنهم يوما ما سيحتاجونه دليلا على براءتهم من دم القناع.

وفى عام 2006 حينما كنت مسؤولا عن هم الآثار المصرية نبشت الدمل، وأفرغت صدأ سنوات من اللامبالاة والإهمال والظلم لحضارة الفراعنة؛ وطلبت من متحف سانت لويس إعادة القناع فرفض، فقمت بدعوة كل مدارس مدينة سانت لويس للتوقف عن زيارة المتحف لأن به أثرا مصريا مسروقا من بلده الأصلي. واتصلت بعضو الكونغرس المسؤول عن المدينة، ثم فوضنا هيئة الأمن القومي الأميركي بمقاضاة المتحف أمام وزارة العدل. وعندما أرادوا معرفة ماذا فعلنا في قضية السرقة في مصر، أحلت الملف لنيابة الأموال العامة المصرية، وللأسف تلقينا الصدمة الثانية! عندما استدعت النيابة مديرة المتحف المصري في ذلك الوقت - الدكتورة وفاء الصديق - للإدلاء بشهادتها قالت على غير الحقيقة إن «القناع ليس مسجلا بالمتحف ولا نعرف عنه شيئا»، وهي الشهادة التي وصلت لمتحف سانت لويس فضموها إلى الخطاب السابق الذكر لكي تضيع بسبب الخطاب والشهادة قضية القناع، ويصدر النائب العام الأميركي أوامره بوقف التقاضي ورفض دعوة الاسترداد!!

والآن يبقى سؤال مهم: هل قامت مصر بحساب المخطئ والمقصر؟ لا، لم يحدث. والأدهى أن الإعلام المصري - وله العذر فلم يكشف له أحد الحقيقة المرة - بدأ يلقي التهم على أميركا وعلى القضاء وعلى أي شيء إلا على الجاني الحقيقي وهو الإهمال والتقصير ممن أوكل إليهم مهمة الحفاظ على التراث والآثار.. ولكن نحن نقول دائما إنه ما ضاع حق وراءه مطالب.. فالحل هو أن نعد قضيتنا جيدا، ولنعمل وفق منظومة عمل ممنهجة وعلم ومعرفة يقومان على قاعدة بيانات حقيقية لحجم الكارثة التي لا يزال يتعرض لها تراث مصر الأثري.