ما زلنا هناك.. في الجبهة

TT

هناك أحداث تفصل بين زمنين، وتعيد رسم الاهتمامات والخرائط، بل وحتى هويات الشعوب والدول، منها الحروب الكبرى التي يستمر أثرها أجيالا، حتى تأتي حرب كبرى أخرى، أو شيء يشبهها في أثره، فيمسح الطاولة من جديد، ويرسم اهتمامات وهويات ونقاشات أخرى.. وهكذا يرتقي البشر، أو ينحطون.

من ذلك الحرب العالمية الأولى، التي ما زالت بعد مرور مائة عام على اندلاعها في 1914 موضع اهتمام، ومصدر تأمل لما جرى قبلها وأثناءها وبعدها.

تسببت تلك الحرب الهائلة ليس فقط في سقوط إمبراطوريات، بل في ولادة مصطلحات ومفاهيم وحدود جديدة للتفكير الإنساني.

أوروبا، والغرب، تعرف ماذا فعلت فيها هذه الحرب، فالغرب الأوروبي هو مشعلها، وهو مطفئها، وتأثر خياله وشعره وفكره وتعريف الدولة بهذه الحرب.

ماذا عن العرب والمسلمين؟

واهم من يظن أن هذه الحرب لا تعني العرب والمسلمين في حاضرهم الآن؛ فموضوع مثل «الخلافة»، وهوية الدولة، ومعنى الشرعية، وفكرة «الأمة» و«القومية» هي شظايا تلك الحرب، التي ما زالت تترامى في أفق الخيال العربي الراهن، وما زلنا أسراها.

الدارسون تحدثوا عن انعكاس هذه الحرب على الثقافة والشعر والفكر عند العرب، وهي انعكاسات تشير إلى كيفية تفاعل النخب العالمة مع مفاعيل تلك الحرب حينها.

مثلا حول نشأة الشعر العربي الجديد، والنثر، يشير أندرياس فليتش، مدرس الأدب العربي الحديث في جامعة برلين الحرة، في مقالة له بنشرة معهد غوته، إلى أن قيام الرابطة القلمية الشهيرة في نيويورك تلبية لدعوة عبد المسيح حداد، في نهاية أبريل (نيسان) 1920، وهي الرابطة التي جددت النثر العربي، وكان من نجومها جبران وميخائيل نعيمة، كان في الواقع «أحد الردود على الاضطرابات الهائلة التي غيرت النظام العالمي نهائيا خلال الحرب العالمية الأولى منذ 1914، فقد زالت عن وجه البسيطة الإمبراطوريات العظمى لآل هابسبورغ وآل رومانوف والعثمانيين، وهي التي كانت تحدد مصائر العالم من وسط أوروبا إلى شرق المتوسط حتى آسيا».

في بلاد الشام، كانت سنوات الحرب العالمية الأولى هي الفيصل بين الشعر القديم والجديد، وهي المنصة التي انطلق منها الشعر «النضالي الوطني»، ونمت فيها أفكار القومية والحداثة.

في العراق، يخبرنا الباحث د. يوسف عز الدين في دراسة له أن «الأدب العربي الحديث في العراق بدأ بصورة ظاهرة بعد الحرب العالمية الأولى، متجليا بدخول الإنجليز العراق وأثرهم الاجتماعي والسياسي».

في تلك الفترة، أخذ أدباء وشعراء العراق يتابعون النقاش المحتدم في مصر والمهاجر العربية حول الجديد والقديم، وتولع نخب تلك الفترة بالحديث عن المدنية والتمدن، وترددت أسماء فلاسفة وشعراء أوروبا، وأصبحت كلمة متمدن، كما يذكر عز الدين، شعارات يرفعها حتى من لم يعرف معناها، فقال معروف الرصافي ساخرا:

وكم مدعٍ فضل التمدن ما له - من الفضل إلا أكله بالملاعق!

عرب اليوم بحاجة لملاحقة البصمات الثقافية والسياسية لتلك الحرب على عقل وعاطفة عرب ذاك الزمان.

[email protected]