السلاح أهم من الخبز

TT

أظهر تقرير لـ«معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام» نشر في باريس، أخيراً، أن بيع الأسلحة في العالم ارتفع، في السنوات الخمس الأخيرة، بما يقارب 14 في المائة، وأن غالبية هذه المنتجات القاتلة تذهب إلى أفريقيا وآسيا، في مقدمتها الدول العربية طبعاً وباكستان والهند وكوريا الجنوبية. وإذا علمنا أن غالبية مصانع الأسلحة في العالم، وأكثرها نشاطاً هي تلك الموجودة في أميركا، تليها روسيا، ربما نجد إجابات على بعض الأسئلة المحيرة، حول أنهار الدماء التي تتدفق في المنطقة العربية.

فالكل يتسلح ويطلب المزيد: الجيوش النظامية، الميليشيات التخريبية، الأفراد المروعون في منازلهم. مشاهد الذبح والقتل بالسكاكين والسيوف والطعن بالخناجر (في المنطقة الأكثر تسليحاً في العالم) التي يصرّ على بثها «داعش»، لا بد رفعت، نسبة الراغبين في اقتناء الكلاشنيكوفات والبومب أكشن والقنابل. وبسبب جرائم «داعش» واكتساحاته المرعبة، وللرد عليها، سلمت أميركا الجيش العراقي، أخيراً، كدفعة أولى، 15 مليون قطعة ذخيرة. قوات البيشمركة ستحصل بدورها، وعلى وجه السرعة، على كميات كبيرة من الأسلحة من أميركا والاتحاد الأوروبي، بعد أن قتل «داعش» وشرد مئات آلاف الإيزيديين والمسيحيين وأصبح على مقربة 50 كيلومترا من أربيل. وبعد أن كان التركيز على تسليح الميليشيات، صار الاهتمام اليوم بالرد عليها بتسليح الجيوش. ليس مهماً عدد القتلى الذين يتساقطون، جراء لعبة تسويق الأسلحة وتوزيعها بالعدل والقسطاسً.

ولإعطاء فكرة صغيرة عما تدره المعارك العربية من مداخيل لصناع الموت الغربيين، فإن معركة ليلة واحدة فقط، في منطقتين صغيرتين جداً وهامشيتين، مثل باب التبانة وجبل محسن، في طرابلس اللبنانية، تستخدم فيها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، تكلف مموليها من 300 إلى 400 مليون دولار، وما عليك سوى أن تحسب الليالي والأحياء، وعدد المعارك، لتعرف كم يضخ الدم العربي من أرباح ومنافع على أصحاب المصانع المتعطشين للسفك.

عسكرة المنطقة، بدأت جديا مع دخول الأميركيين إلى العراق عام 2003، ووصول الذخائر بكميات خيالية، تارة لتسليح قوى الأمن وأخرى لإعادة بناء الجيش. عام 2007 أعلن البنتاغون عن اختفاء 200 ألف قطعة سلاح أميركي من العراق، لا أحد يعرف كيف تبخرت. علم بعد ذلك أن جزءاً مما يختفي في العراق، يظهر في الدول المجاورة ومنها لبنان الذي شهد «حرب نهر البارد» في العام نفسه وقيل حينها إن مقاتلي تنظيم «فتح الإسلام» المتشدد يقاتلون بأسلحة متطورة ولديهم مناظير ليلية أميركية، وكرت بعدها السبحة.

الحرب على ليبيا لإسقاط معمر القذافي كانت منفذاً لعسكرة لم يسبق لها مثيل. المصادر تتحدث عن 45 ألف قطعة سلاح هرّبت من ليبيا، والإخوان المسلمون يهددون اليوم بـ25 مليون قطعة حربية في الشوارع، وآخرون يقولون إنها لا تقل عن 50 مليوناً، وعلى الليبيين أن يتدبروا أمرهم باتفاق سياسي سريع، للنجاة من فخ الميليشيات الذي نصب لهم.

الأرقام مروعة، وتبعث على الإحساس أن حروباً أهلية، لعشر سنوات مقبلة لن تكفي لاستنفاد الذخائر التي وزعت على العرب. في لبنان وحده ثمة أكثر من ثلاثة ملايين قطعة، أي لكل مواطن سلاحه، هذا إذا استثنينا ترسانة حزب الله، التي تضم صواريخ تصل إلى تل أبيب باعتراف الحزب نفسه. وفي الأردن الكلام عن مليون قطعة سلاح على الأقل بسبب التهريب الكثيف من سوريا، فيما يستحيل إحصاء مكنونات الترسانة السورية نفسها الموزعة بين النظام والمعارضة، لكنها بالتأكيد تبعث على الدوار.

منتجات قاتلة، ندفع ثمنها أموالنا في البدء، ثم أولادنا وأحباءنا. لم نزود بها لقتال إسرائيل بالتأكيد. فأسلحة الحروب الأهلية من كلاشنيكوفات وقنابل وآر بي جي، هي من مستلزمات الانتحار الذاتي، وإن تمكنت غزة من تحقيق اختراق، بتطوير ما وصل إلى القطاع، وتصنيع بعض الصواريخ المحلية، فإن ذلك يبقى استثناء غير صالح للتعميم.

إسرائيل لها تسليح آخر. فأمنها من أمن الغرب نفسه، لذلك ورغم أن لها من مصانع الأسلحة ما يورد لمائة دولة، لا تكف أميركا عن عقد الصفقات الضخمة، معها، عدا ملايين الدولارات التي أنفقت على القبة الحديدية الفاشلة. ولا تكف الدول الأوروبية عن الاستبسال لحماية إسرائيل، فقد قررت بريطانيا وحدها، العام الماضي بيع تل أبيب أسلحة بما يزيد على ستة مليارات دولار. وهو ما دفع مديرة منظمة العفو الدولية لأن تتساءل عن سبب تلكؤ الحكومة البريطانية في مراجعة رخص تصدير الأسلحة المبرمة مع إسرائيل، مع أن 1500 مدني فلسطيني لقوا حتفهم، جراء القصف الناري الأخير.

غالبية الأرقام المنشورة، تخص الصفقات الرسمية مع الجيوش النظامية، مئات المليارات التي صرفت على المجموعات العربية المسلحة من كل لون وصنف، تبقى طي السرية. الدول المصنعة للسلاح، تضحك ملء شدقيها، من اليمن إلى ليبيا يتكدس سلاح قديم، بال وخفيف لا يصلح لأكثر من ارتكاب مجازر في حق الأهل والجيران، وإسرائيل تصنّع وتبيع وتستورد الأكثر حداثة وتكنولوجيا للفتك بالإخوة المتناحرين دون التفريق بين أي منهم. المشهد سوريالي، والسلاح المعتق المعدّ لزهق أرواح الأهل في الدار، لا يزال يتدفق، مرة لمساعدة الميليشيات، ومرة أخرى لمكافحتها، ولا يزال مسلسل بيع الأسلحة مستمراً.