العودة المتأخرة للرئيس والوداعية المبكرة للسفير

TT

مرة أخرى يحدث نوع من تنفُّس الصعداء في المجتمع اللبناني بالعودة التي لها صفة المفاجأة الإيجابية السارة لرئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الدين رفيق الحريري بعد غياب، لا هو أراده ولا جمهوره العريض كان يتمناه، ودام ثلاث سنوات وأربعة أشهر. ومع أن غياب سعد الحريري كان طويلا إلاَّ أنه عمليا انتقل من لبنان وطن الأب والجد والعمة بهية إلى الوطن الثاني السعودية، وفي هذه الحال تختلف الأمور لو أن الرجل كان في بلد غريب، فضلا عن أنه بين الرياض وجدة كان حاضرا بقوة في المشهد السياسي اللبناني، وفي الوقت نفسه منشِّطا قنوات التواصل مع رموز القرار العربي والدولي في سبيل تحقيق الاستقرار المنشود للبنان، والمدعومة بقوة سياسية وعاطفة أخوية من جانب القيادة السعودية، الجهود من أجل إنجاز هذا الاستقرار.

وفي هذا السياق كان تحرُّك سعد الحريري وكانت لقاءاته مع رموز القرار في دول كثيرة من البيت الأبيض إلى الإليزيه إلى 10 داوننغ ستريت إلى الفاتيكان إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى آخرين كثيرين من الرموز العرب والأجانب الفاعلين في صياغة القرارات. وهؤلاء تعاملوا مع سعد الحريري كما لو أنه لم يغادر سراي البيارتة التي أعاد إليها رونقها والده الشهيد رفيق الحريري. وطوال سنوات الغياب الاضطراري عاشت المنطقة فواجع إنسانية نتيجة الانتفاضة السورية المستمرة والعلاج البشَّاري غير المتعقل لها وعدم اهتمام الإدارة الأميركية بالمأساة السورية والمأساة الغزاوية اللاحقة. وفي الوقت نفسه إخفاق مجلس الأمن المسلط سيف الفيتو الروسي والخنوع الصيني على مشاريع قراراته المنصفة في الحد الأدنى للملايين من الشعب السوري. وهذه المأساة السورية جعلت لبنان للمرة الأولى في نظر العالم بحكومتين؛ واحدة رسمية في مقرها في بيروت وأخرى أشبه بحكومة الظل يتولاها سعد الدين رفيق الحريري وهو خارج لبنان، حيث يأتي الأقطاب إليه بغرض التشاور أو للطلب منه حل بعض التعقيدات من نوع انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس الذي انتهت ولايته ميشال سليمان، وأوجدت المأساة السورية باستمرارها وتجديد الرئيس بشَّار الأسد لنفسه ولاية جديدة تعقيدات جعلت من الصعوبة بمكان انتخاب رئيس للجمهورية يخلف الرئيس ميشال سليمان الذي افترض بإعلانه قبل أسابيع من انتهاء ولايته أنه لن يسعى إلى التمديد كما الذي حصل للرئيس إميل لحود بإرادة بشَّارية، إنه سيسهِّل أمر اختيار الرئيس الخلَف، لكن تقديره للموقف لم يكن في موضعه. وعملا بالرؤية التي اعتمدها والده من قبل ويسير هو على النهج ذاته فإن سعد الدين الحريري من أجل تيسير انتخاب رئيس الجمهورية طرح مبادرة في هذا السبيل قبل عشرين يوما (الجمعة 18 يوليو/ تموز 2014) من عودته إلى لبنان. وبذلك بدت مبادرته تلك التي هي خارطة الطريق لحل أزمة الرئاسة الأولى وكأنما هي إشارة لاقتراب يوم العودة، ثم كان إسناد الهبة المليارية من جانب خادم الحرمين الشريفين للبنان الأمني بمثابة ترجمة الإشارة إلى وصول مفاجئ إلى بيروت من طائرته الخاصة إلى السراي مباشرة، مسجلا بذلك أنه أول شخصية سياسية تُستقبل في ساحة السراي استقبال مبعوث على مستوى القمة، وهو فعلا كان كذلك، بدليل قوله في بداية اجتماع برئاسة رئيس الحكومة تمَّام سلام بحضور وزيري الدفاع (سمير مقبل) والداخلية (نهاد المشنوق) وقادة الأجهزة الأمنية «إنه مؤتَمن على إنفاق الهبة السعودية في الوجهة المخصصة لها وتقديمها كهدية عينية إلى الجيش والقوى الأمنية بمتابعة الرئيس سلام ومجلس الوزراء ووفْق الأصول القانونية...». وهذا الائتمان أشار إليه خادم الحرمين الشريفين من خلال اتصاله بالرئيس تمَّام سلام.

ومع أن الرئيس سعد الدين الحريري نأى بعودته عن إدراج الموضوع الأهم في لبنان، وهو خلو لبنان من رئيس للجمهورية، إلاَّ أن الموضوع لا بد ضمن «أجندته»، ذلك أنه ما دام أمر مواجهة خطر الإرهاب بات من أولويات انشغال البال العربي فإن استمرار منصب الرئاسة اللبنانية الأولى خاليا يشكِّل عنصر تهديد أشد ضراوة من الذي جرى والذي بسببه جاءت المنحة السعودية المليارية العينية لتنشيط القدرة الأمنية اللبنانية. أما لماذا القول، ولو افتراضا، إن موضوع الرئاسة الأولى ضمن «أجندة سعد الدين الحريري» فلأن حالة الجزْر اللافتة للإحباط المستشري في نفوس اللبنانيين، بمن فيهم الذين لم يعبِّروا بالصوت العالي عن ترحيبهم ولم يوزعوا الحلويات ابتهاجا بالعودة المفاجئة للرئيس المفترى عليه، وإلى حد إفراغ الرئاسة منه في ملعوب سياسي غير نزيه، ناشئة عن أن العودة تعني من جملة ما تعنيه المشاركة الفاعلة في استنباط صيغة لموضوع منصب رئاسة الجمهورية الذي يشكِّل عامل السن أحد أكثر الأمور تعقيدا فيه، ونعني بذلك أن إصرار الجنرال ميشال عون على عدم استعداده لإفساح المجال أمام حل وفاقي بدل توافقي هو أن الجنرال يرى أنه إذا كان لن يترأس الآن فإنه لن يترأس أبدا كونه بعد ست سنوات سيكون في الخامسة والثمانين، بينما كان إبرام صفقة معه متيسرا لو أنه في سن الدكتور سمير جعجع. ومثل هذا الاعتقاد يراه عون في الذي حصل للزعيم الماروني المستنير (الراحل) ريمون إده الذي عطلوا انتخابه ولاية بعد أخرى إلى أن انتهى به الأمر شخصا لا تجيز له ظروف الوضع الصحي والسن المتقدمة الإتيان به رئيسا. وإلى ذلك فإنه لو كان جرى انتخاب الرئيس في حينه وضمن الصيغة الدستورية بدل المماحكات والتعطيلات المتعمدة لكان الحريري الذي كما والده الراحل يحترم الأصول ويعطي المقامات حقها، توجه مباشرة إلى القصر الجمهوري وليس إلى السراي، ولكان رئيس البلاد ارتأى عقْد جلسة رئاسات استثنائية يعلن فيها سعد الدين الحريري ما هو مكلَّف به من قِبَل الملك عبد الله بن عبد العزيز.

في أي حال، كانت عودة الرئيس سعد الدين الحريري لحظة استبشار بأحوال ربما تتغير نحو الأحسن، وهي ممكنة في حال أتبع مفاجأة العودة بمبادرة تستهدف جمْع الشمل؛ ذلك أنه من دون هذه المبادرة ستبقى خارطة الطريق التي أطلقها من المملكة في رسالة مبثوثة عبْر الفضائيات إلى الإفطار المركزي «تيار المستقبل» يوم الجمعة 18 يوليو الموافق 19 من شهر الصوم المبارك في «البيال» مجرد نوايا طيبة. وتشاء الصدف أن مفردات حُسن النوايا التي تضمنتْها خارطة الطريق الحريرية جاءت بعد نوايا عكسية حواها الخطاب الرئاسي للرئيس بشَّار الأسد الذي حفل بمفردات لا تتيح له تصحيح أخطاء سياسات وأساليب أربع سنوات مضت، وبالذات في حق دول الخليج. أما الهبة المليارية المؤتَمن على إنفاقها بعيدا عن الأساليب اللبنانية المعتادة، فإنها نجدة جديدة استثنائية ولن تكون الأخيرة من الملك عبد الله بن عبد العزيز. هذا من الناحية الإجرائية البروتوكولية. أما من الناحية الأهم فإن علي عوَّاض عسيري انفرد على مدى سنوات شغله منصب السفير دون غيره من السفراء العرب والأجانب الذين يمثلون بلادهم لدى لبنان بتحقيق معادلة أضافت الكثير إلى الأجواء الطيبة التي تميزت بها سنوات السفير السلَف الدكتور عبد العزيز خوجة. والمعادلة هي جمْع الشمل السياسي والحزبي والطوائفي على كلمة سواء وعلى قاعدة يسِّر ولا تعسِّر؛ لأن مع العسر (ونكاد نلفظها العسيري) يُسرا. وهو بسعيه المشكور لتحقيق هذه المعادلة يستحضر في التمهيد وعند التنفيذ توجيهات الملك عبد الله بن عبد العزيز.

وتبقى الإشارة إلى أنه عندما عاد الرئيس سعد الدين رفيق الحريري من غياب قسري دام ثلاث سنوات وأربعة أشهر، وأحدثت عودته حالة انحسار الإحباط والقلق المختزن في نفوس اللبنانيين، وتعليق كثير الآمال على هذه العودة، رأينا الذاكرة تستحضر حالة الارتياح التي أحدثتْها في نفوس اللبنانيين عودة السفير علي عوَّاض عسيري يوم الجمعة 2 مايو (أيار) 2014 بعد غياب دام بضعة أشهر. وتشاء الصدف أن عودة الرئيس سعد الدين الحريري كانت يوم جمعة أيضا، وهو يوم مبارك في أي حال. وكما حال الرئيس سعد الدين الحريري كانت حال علي عوَّاض عسيري، وهي التمسك بالخط السعودي الذي يرى أن لبنان قوي بالخصوصية والتنوع والتوافق والاعتدال... وأنه أقوى بعلاقاته مع الأشقاء العرب من دون أن تكون علاقاته مع الآخرين على حساب العرب.