سباق الأفكار

TT

في الوقت الذي تكاد فيه الحملة الأمريكية المباشرة لمكافحة الإرهاب تكمل دورة كاملة في جوانبها العسكرية وتجفيف مصادر التمويل وتعديل القوانين بما يسمح بتضييق الخناق على المشتبه فيهم، فانها في ذات الوقت تعيد تقليب الأرضية عودا الى الجذور للبحث في ظاهرة التطرف وعدم ترك فراغ آخر تملأه «طالبان» أو «قاعدة» اخرى. فالمستجدات دفعت (الرئيس الأمريكي) جورج بوش الى تناسي تصريحاته الانتخابية بعدم حاجة الولايات المتحدة الى الانغماس في جهود اعادة بناء الدول المحطمة، ولعب دور أساسي في تشكيل الادارة الجديدة في أفغانستان. فالعالم من الصغر والترابط بحيث لا يمكن للأغنياء التمتع في مجتمعاتهم بحيواتهم متجاهلين ما يجري في بقية الكون.

واذا كان هذا هو أحد دروس أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) الماضي، فان لهذا الدرس انعكاسات ستطال المنطقة العربية والاسلامية إن عاجلا أو آجلا في مسعى لتجفيف البيئة التي انطلق منها هذا التطرف الأبكم. واذا كانت العديد من التقارير الاعلامية تحدثت عن الرغبة العارمة في معرفة المزيد عن الاسلام، فان هذه الرغبة تخفي أكثر من مجرد المعرفة من اجل المعرفة أو ايجاد تفسير لهذه الظاهرة: ظاهرة استعداد عرب ومسلمين في الأساس للتضحية بأرواحهم واستهداف أبرياء في سبيل قضية لم يطرحوها أو يتركوا رسالة بشأنها حتى.

الشعار الذي طرحه بوش في البداية ان من ليس معنا فهو مع الارهاب، يبدو من البساطة وكأنه من مخلفات فترة الحرب الباردة، ويتطلب معالجات من ذات النسق الذي شهدته تلك الحقبة تقوم على حشد تحالف دولي والتنسيق مع الحكومات مع اختلاف طفيف: استبدال الخطر الأصولي الأخضر بالخطر الشيوعي الاحمر.

لكن هذا التناول يبدو في طريقه لافساح المجال أمام تحليل آخر أكثر عمقا تنبئ عنه كتابات وأبحاث تنطلق كلها من فرضية أساسية ان ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر هو عبارة عن تصدير لأزمة تخلف العالم العربي والاسلامي التي لم يستطع مواجهتها عبر التحديث والتنمية والديمقراطية، فآثر البحث عن شماعة يعلق عليها فشله، ووجدها في الغرب وزعيمته الولايات المتحدة.

الأسبوع الماضي أصدر بيت الحرية في نيويورك تقريرا عن الفجوة المتسعة بين الحرية والعالم الاسلامي، بصورة عامة والجزء العربي منه خاصة. التقرير استعرض أحوال 192 حكومة في العالم وجد منها 121 حكومة منتخبة بصورة ما. وفي تصنيفه لأوضاع البلدان وجد ان 85 قطرا تعتبر حرة بالكامل، حيث تحترم الحقوق السياسية والحريات المدنية بالكامل. وهي تضم المنظومة الغربية ويعيش فيها 5، 2 مليار نسمة أو 4، 41 في المائة من سكان العالم وبحوزتهم 1، 27 تريليون دولار، أو 87 في المائة من الناتج الاجمالي الاقتصادي للعالم.

المجموعة الثانية تضم 58 دولة تتمتع بحرية جزئية، حيث القانون غير مطبق رغم مظاهر الديمقراطية السائدة فيها وهي تعاني من نزاعات دينية أو عرقية، ويعيش فيها 4، 1 مليار نسمة، أو 2، 23 في المائة من سكان العالم وبحوزتهم تريليونا دولار، أو 6 في المائة من الثروة العالمية. أما المجموعة الأخيرة فتضم 48 دولة يصفها التقرير بانها ليست حرة وتغيب عنها الحريات الأساسية بصورة منظمة، ويعيش فيها 1، 2 مليار نسمة، أو 3، 35 في المائة من سكان العالم، ويوجد بحوزتها 2، 2 تريليون دولار، أو 7 في المائة من الثروة العالمية.

جغرافيا يشير التقرير الى الوضع في أفريقيا، حيث يستعرض أوضاع 53 دولة فيصنف تسعا انها دول حرة، 25 تتمتع بحرية جزئية و 19 ليست حرة. أما في آسيا فمن اجمالي 39 دولة، فان 18 تعتبر دولا حرة، عشر منها تتمتع بحرية جزئية و 11 غير حرة. أما دول منطقة الشرق الأوسط الأربع عشرة عدا شمال أفريقيا فتبقى جذور الحرية ضعيفة فيها للغاية. وفي الدول ذات الأغلبية الأسلامية، فان 11 منها لها حكومات منتخبة. كما ان قائمة أسوأ عشر دول فيما يتعلق بالحرية تضم سبع دول اسلامية، خمس منها عربية.

ويتناول التقرير أسباب تراجع الحرية والديمقراطية في العالم الاسلامي، فيلخصها في انتشار الفساد والمحسوبية، المكانة المتدنية التي تحتلها المرأة في المجتمع، عدم فصل الدين عن الدولة، الدور السلبي للثروة النفطية، حيث أسهمت في ايجاد دولة للرفاه وبالتالي تراجع الحافز للجد والعمل، وجود أنظمة ذات شرعية وإرث تاريخي مما يجعل المجال ضيقا أمام الأجيال الجديدة للتعبير عن نفسها من ناحية أو أنظمة شمولية من ناحية أخرى.

هذا الوضع أدى الى ان الولايات المتحدة التي تدفع باتجاه الانفتاح الديمقراطي والتحديث أصبحت مواجهة بحالة معقدة في المنطقة العربية والأسلامية كما لاحظت مجلة «نيوز ويك» في مقال رئيسي لها الأسبوع الماضي نشرته تحت عنوان أكثر ايحاء: كيف يتم انقاذ العالم العربي؟ فالقوى السياسية البديلة للأنظمة القائمة تعتبر محسوبة على تيار التطرف، كما ان الأنظمة تبدو في الغالب أكثر استعدادا للانفتاح والتحديث من المعارضين لها، ولهذا تبدو قدرة واشنطون على الدفع باتجاه المزيد من الحريات السياسية محدودة لخوفها من أن تفتح المجال أمام قوى أكثر عداء لها.

ويقترح المقال أن تتخلى واشنطون عن حذرها هذا وتتبنى صيغة تقوم على تشجيع المزيد من الأصلاحات الاقتصادية، التي تؤدي بدورها على المدى الطويل الى نمو الطبقة الوسطى التي يمكنها الدفع باتجاه الاصلاح السياسي، الى جانب الانفتاح الاعلامي، وهي الصيغة التي اتبعت بصورة ما في التعامل مع المعسكر الشرقي.

أوضاع المنطقة الاقتصادية التي زادها تعقيدا النمو السكاني الكبير فيها دفعتها دفعا الى البدء في مسيرة بطيئة للاصلاح الاقتصادي وإعطاء القطاع الخاص دورا أكبر لتوفير الاستثمارات اللازمة للخدمات والوظائف وذلك على حساب تراجع دور الدولة في العملية الاقتصادية. فهل تتكامل هذه الجهود مع ما تشهده واشنطون من مراجعة لسياساتها في المنطقة؟

وقبل الاجابة يستحسن الاشارة الى انه ليست هناك قناعة تامة بوجود صلة بين تحسن الأوضاع الاقتصادية والممارسة الديمقراطية المستندة الى طبقة وسطى نشطة. وهناك من يرى، مثل الممول العالمي جورج سوروس، ان المسار الرأسمالي غير المسار الديمقراطي، اذ الأول عينه على الثروة وانشغاله الدائم بالفلوس وهدفه المصلحة الخاصة، بينما الثاني عينه على السلطة السياسية وانشغاله بالأصوات الانتخابية واستهدافه الجمهور العريض.

والى جانب هذا، فان عمليات التنمية تحتاج الى ادخار عال وشد للأحزمة، وهو ما توفره الأنظمة الأوتوقراطية أكثر من تلك الديمقراطية ذات الحساسية تجاه الرأي العام.

هذا الجدل ليس جديدا وأسهم في تركيز النقاش حوله كتاب لصمويل هنتنغتون، صاحب نظرية صراع الحضارت، الذي كتب عن الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي المستمرة منذ العام 1975 ولا تزال بعد الموجة الأولى التي غطت فترة عقدين من الزمان وانتهت عام 1962 لتشمل 52 دولة والثانية استمرت 17 عاما وانتهت عام 1975 شاملة 30 دولة.

لكن الجديد ان النقاش يتم هذه المرة في واقع مختلف تماما.