عودة المقاومة الأخرى

TT

منذ أكثر من سنتين، شاركت في ملتقى متوسطي تناول سؤال التأثير والتأثر في منطقة البحر الأبيض المتوسط وذلك بمدينة طليطلة باسبانيا.

وقد قدم الشعراء المدعوون مداخلات عبرت عن حميمية أصحابها وعن قدرة كل مولع بالقصيدة على نحت المقاربة المختلفة والمفاجئة.

ولكن ما بقي عالقاً بذهني بعيداً عن الندوة وعن السهرة الشعرية الساحرة، هو مداخلة الشاعر العراقي المقيم في لندن فوزي كريم. أتذكر أنه كان في ورقته مضيفاً وصادقاً ومتألماً بعد أن قرر البوح الصافي، وبعد أن اعتزم تصيير موقفه إلى عصفور كل ما فيه يرفرف بحرية الحرف وبسلطة النبرة.

قال الشاعر فوزي كريم ساعتها بأن التيارات السياسية والآيديولوجية في الخمسينات والستينات قد أجهضت قصائد الحب والحياة لصالح قصائد «التحزب» والانتماءات الموجهة إلى درجة ان الشاعر لا يستطيع أن يحقق أي مجد يذكر ما لم يمنح صوته الشعري لجهة معينة يضمن لها وصول فكرها وتضمن له الشهرة والتبني المطلق لموهبته.

ومثل هذه المعادلة المشروطة حتى النخاع حرمت الشعر العربي من روائع لم تجد طريقها يسيرة إلى موهبة وقع تجنيدها فلبّت النداء مرغمة وأضحت تستحي قراءة قصيدة حب أو الوقوف وقفة المبدع أمام حدث يومي عابر يناشد الخلود في القصيدة.

وفي الحقيقة، هذا الموقف وجد له الأبواب مشرعة في نفسي ولا غرابة من ذلك وأنا المهووسة بالحداثة الشعرية والمؤمنة روحاً ووعياً بكفاءة قصيدة النثر في كتابة ما لم يكتب في الشعر وفي الفن عموما.

هذا بالاضافة إلى أنه بعد اتفاق أوسلو، أطلق العديد زغرودة فرح معلنين أن شعر المقاومة وأدبها قد ذهبا إلى حيث لا عودة، بل ان بعض البعض راح يجرد شعراء من أمجادهم لينسبوا إلى القضية الفلسطينية وإلى وهج الوجع الفلسطيني.

ولا شك في أن هذا الموقف لا يخلو من تطرف ومن غليان في الحكم على الأشياء وفي تقييمها، وهو تطرف تعودنا عليه في ردود فعل أهل الإبداع العربي، حيث لا ثالث للانبهار أو الجحود.

وعلى اثر خفوت صوت الفن الملتزم وبالتحديد شعر المقاومة وفنها العام، تبرع بعض النقاد بأقلامهم وسخروها كي يقدموا لنا على طبق يتوسطه شرخ بارز أسباب زوال فنون القضية التي تتلخص في ضعف الجانب الفني والولاء التام لتقنيات معركة أزلية مع الفن كالمباشراتية والخطابية وإعلاء صوت الجماعة على صوت الذات المسحوق.

وتبعاً لكل هذا، حصلت الجريمة الجماعية ولم نتأخر في التعبير عن جحودنا وعن اظهار موهبتنا في غبن التخيل وفي خنق أصوات شعرية اختارت الانفعال نبرة لقصيدتها والغضب لونها المفضل، ونسينا ونحن في أوج عملية النسف ان ذلك الفن يعبر عن قضيتنا ويدون حرقة قلوب أمهات الشهداء، نسينا كل ذلك فكان النسيان آفتنا القديمة والمتجددة.

ولكن ما أن عادت الانتفاضة الفلسطينية من جديد وما أن شاهد العالم لقطة مقتل الطفل محمد الدرة حتى استعاد الخفوت توهجه الماضي وعاد الشعراء المطرودون لينشدوا المزيد من الشعر والمزيد من الفن. ولمعت في الذاكرة الخائنة صورة النعش المحمول على الكتف وقصبة الزيتون القابضة على اليد. وعادت الأمسيات الصاخبة لتعيش من جديد على نخب الجرح الذي لم يعرف يوماً اندمالاً.

ولكن هذه العودة لفن القضية ولشعر الثورة والانتفاضة والنقد اللاذع والمباشر والصريح لديكتاتوريات العالم، وللأكثر من معالي وزير بدت وكأنها ميلاد مختلف لنفس الفن الذي تم اغتياله عندما أصابنا الملل فجأة كسكتة قلبية. وهذا في الحقيقة ما كشفت عنه أعمال فنية كثيرة وأكدته بعض التظاهرات التي حفل بها مهرجان المدينة بمدينة تونس، حيث استطاع الشاعر الكبير سميح القاسم أن يثبت للمرة الألف أنه موهبة يحسب لها ألف حساب وكذلك العازف المتميز الفنان نصير شما الذي طوع عوده كي يعزف ترنيمة لأطفال أفغانستان ويقدم رقصة من أوتاره للمقاومة دون أن ننسى معزوفته الشهيرة التي ألفها عن ملجأ العامرية.

وبلفت النظر عن استقطاب السياق الآني الدولي والعربي لفن القضية الذي يحضر كمقال مناسب في مقام مناسب، فإن هذا الفن يجد له الشرعية القوية التي تؤسس لأحقية عودته بل ولضرورة ملازمته للنضال العربي في مستقبل ساخن جدا.

بالإضافة إلى أن ما أصبح يكتب من شعر وما يؤلف من معزوفات وما ينتج من مسرحيات قد اتخذ طرائق جديدة، وهي طرائق اكتسبها هؤلاء المبدعون من إطلالتهم على تجارب حداثية بدأت تفعل فعلها منذ أكثر من ثلاثة عقود وكأن بالزمن الفني صاغ كثافته الخاصة ومزج بين صدق قصيدة النضال والصوت العالي وبين قوة الحداثة الشعرية الكامنة في الحضور العميق للرمز وللحوار الذي يلتقط أقصى ذبذبات النفس.

ومثل هذا التأثير والتأثر بين تجارب فن القضية وبين تجارب حديثة استأثرت بالذات كمركز للعالم الشعري دون سواها من الأبطال القدامى، اكسب الشعر ثراء ما كنا لنحققه لولا الوقفة التي تمت والخيانة الفنية الجميلة التي وقعت.

إن الأمسية التي أنشد فيها سميح القاسم أجود الشعر قد وضعت الحروف فوق النقاط، بل انها وقفة تأملية صادقة وحافز حقيقي للتساؤل وللتحاور مع مسلمات لا معنى لها ومنها أن لا قيمة لشعر الانتفاضة ولا قيمة لفن يدون خيبات العرب الكثيرة.

أليس الفن هو وعاء لكل هذا؟، يبدو أننا في اللحظات التي نتوهم فيها أننا نرى الحقيقة ونقدم النقد اللازم، هي تلك اللحظات التي نقترف فيها أخطاء لا يغفرها لنا سوى الزمن الفني.

لقد أشعل المبدعون النيران وأطلقوا للاحتراق عنان الألسنة فصار شاعر المقاومة والانتفاضة لا يعترف بشاعر نمنمات الذات وكفر بذاتية الشعر فقابله غير المعترف به بشماتة عندما انفض من حوله الذين ملوا القضية وكرهوا سماع أصواتها الشاعرة. نحن نفعل الخلافات والمعارك ونحطم بعضنا البعض كي لا تبقى لا قصيدة عمودية ولا شعر تفعيلة ولا قصيدة نثر بينما يصنع الفن توحده الباطني ويجعل تقنيات مختلفة تلتقي دون رضا أصحابها، ويجعلنا نتصالح في حضرة قصيدة كلنا نتسابق للفوز بمنديلها ساعة البكاء وبشالها ساعة البرد.

[email protected]