هوس العنف.. وأوهام البطولة

TT

رغم ان ارئيل شارون والملا محمد عمر وصدام حسين يبدون ظاهرا اعداء لبعضهم البعض، وعلى تناقض في كل شيء، الا ان جوهرهم في النهاية واحد. ارئيل شارون يهودي صهيوني متشدد، ويعتقد في قرارة نفسه، كما يمكن استخلاص ذلك من سياساته، ان العنف هو السبيل الأوحد لتحقيق الاهداف في نهاية المطاف. فبالعنف تأسست دولة اسرائيل، وبالعنف حافظت على وجودها، وبالعنف ارغمت اعداءها على الجنوح الى السلم، وبغير العنف لا يمكن لها ان تحافظ على كيانها وتحقق الحلم الصيهوني الكبير. فمصائب اليهود عبر التاريخ انما جاءت نتيجة عدم قدرتهم على الدفاع عن النفس، وستعود المأساة بمجرد ان يتخلى اليهود عن السلاح. هذه في تقديري نقطة محورية في اللاشعور الجمعي اليهودي، الذي تعبر عنه الصهيونية ايديولوجيا. ومن ناحية اخرى، فإن شارون، ومن سار على نهجه من غلاة الصهيونية، لا يمارسون العنف قبل ان يضعوه في اطار من القدسية والمفاهيم المتسامية. مرة باسم ضرورات الدفاع عن النفس، ومرة باسم حماية الشعب اليهودي، واخرى باسم فرض القيم الانسانية على شعوب لا تعرف من الحضارة الا اسمها.

والملا محمد عمر مسلم متشدد، كما يطرح نفسه على الاقل، واصولي متصلب، كما يراه آخرون، يعتقد هو الآخر في قرارة نفسه ان العنف، كما يتضح ذلك في علاقته مع الآخرين، السبيل الأوحد لتحقيق الاهداف في نهاية المطاف. فبالعنف يمكن فرض «كلمة الله» على من لا يؤمن بها، او لا يقيم لها وزنا، او لا يفقه معناها الذي لا يفقهه الا «امير المؤمنين» ومن نهج نهجه، وسار على مقتضى سنته. والاسلام، وفقا لمثل هذا الفهم الذي لا يرقى الى مستوى الفقه حقيقة، لم يتحقق على ارض الواقع التاريخي الا من خلال السيف بشكل شبه حصري. قد لا يقول اصحاب هذا النهج ذلك علانية، ولكن سلوكهم يوحي بذلك، وسياساتهم في الداخل والخارج تصرح بذلك. والملا عمر بدوره لا يمارس العنف هو الآخر الا بعد ان يضعه في اطار من القدسية والقداسة والمفاهيم المتسامية. فهو، اي مثل هذا العنف، «جهاد» مأمور به من رب العلا تارة، وهو تصد لمن يريدون اذلال الاسلام والمسلمين من الكفار وأهل الصليب والنجمة تارة، وهو صراع شامل بين معسكر الكفر ومعسكر الايمان تارة اخرى. وصدام حسين عربي قومي متشدد، كما يطرح نفسه على الاقل، يعتقد في قرارة نفسه، والشواهد على ذلك كثيرة، بأن العنف هو سيد الاحكام، بل هو حكم الاحكام، وفي الداخل والخارج على السواء. وصدام حسين، كرفيقيه السابقين، يمارس العنف من خلال مفاهيم متسامية تصل الى درجة القداسة، تدور كلها حول «الأمة الواحدة»، ذات الرسالة «الخالدة»، التي يمارس العنف باسمها ولأجلها.

العنف وسيلة وغاية، هو القاسم المشترك بين هذه الشخصيات الثلاث، ومن سار على نهجها والتزم بسنتها. وتبرير العنف بالمقولات الايديولوجية المتسامية، هو الرداء الخارجي الذي يقدمون فيه انفسهم للآخرين ولمن يقودون، او المهيمن عليهم من قبل هؤلاء، سواء كانت هيمنة مادية تتركز في العنف المجرد، او هيمنة ايديولوجية تتركز في تضليل العقل، او فيهما معا. فسواء مورس العنف باسم «النضال»، كما في الحالة الصدامية، او باسم «الجهاد»، كما في الحالة العمرية، او باسم «الدفاع عن الذات»، كما في الحالة الشارونية، فإن العنف والحلول «الحدية» تبدو مطلوبة لذاتها في هذه الاحوال.

ففي الحالة الشارونية، كان واضحا من البداية ان شارون يسعى الى قلب طاولة المفاوضات على رؤوس الجميع، واغتيال كل امكانيات الحل السلمي، منذ ان قام بزياته الشهيرة والاستفزازية الى المسجد الاقصى عام 2000، تلك الزيارة التي كانت بمثابة شرارة دائرة العنف الحالية في فلسطين. كان شارون واثقا من ان مثل هذه الزيارة سوف تؤدي الى تفجير الاوضاع، ومن ثم التنصل من اتفاقات مدريد واوسلو وكامب ديفيد وواي ريفر وغيرها، وهذا هو بالضبط ما كان يسعى اليه شارون، وما زال يسعى اليه. بايجاز العبارة، فإن شارون يريد ان يكون «مسيح» اليهود المنتظر، وهو مسيح لا ينتمي للمسيح الذي يؤمن به المسيحيون والمسلمون. فمسيح شارون هو مسيح محارب يعيد مملكة داود، ويفرض سلطان شعب الله المختار، على بقية خلق الله من الامميين او «الغوييم».

وفي الحالة الصدامية، كان واضحا ان العنف هو الغاية وهو الوسيلة في كل شيء يفعله صدام حسين. فقد استهل حكمه بتصفية رفاقه في الحزب والدولة، ومحاولة تصفية قطاعات واسعة من شعبه في الشمال والجنوب وبينهما الوسط، وبدء حرب طويلة الأمد مع جارته ايران، لم يلبث بعد هدوء اوارها ان اتجه جنوبا الى الكويت، ثم أخذ بعد هزيمة «أم المعارك» يثير المشاكل والخلافات، لعلها تعيد الصراع الى الساحة، والعنف الى مائدة اللعب. فلقد اصبح الصراع والقتال والنضال، وكل مفهوم يتضمن العنف، جزءا من الشرعية السياسية لحكمه. فإن كان في ذاك الصراع من المنتصرين، كما هو الزعم في الحرب مع ايران، فهو البطل الذي عجزت النساء عن ان يلدن مثله. وهو ان كان في ذلك الصراع من المهزومين، فهو البطل الذي استطاع ان يقول «لا» لكل قوى الشر والعدوان، التي هي اي قوة وكل قوة امام اطماع وجنون عظمة القائد الملهم. وفي كل الاحوال، يبقى هو «المهدي» المنتظر، الذي سيملأ الارض عدلا بعد ان امتلأت جورا.

وفي الحالة «العمرية»، فإن «امير المؤمنين» قد صفى من المؤمنين في ارض افغانستان ما بين ثلاثمائة ألف قتيل، وفق اضعف التقديرات، وثمانمائة قتيل، وفق اكبر التقديرات، خلال خمس سنوات عابرة. كل شيء يتم بالعنف والاكراه ولا شيء غيرهما: عبادة الرب الرحيم بالعنف، الحجاب بالعنف، تنمية اللحى بالعنف، اغلاق العيون والآذان عن رؤية وسماع ما «لا يجب» ان يرى ويسمع بالعنف، التعامل مع الحجر والشجر بالعنف، وفرض دين «لا إكراه في الدين» بالعنف. لا مانع ان يموت الآلاف من «المؤمنين» في مواجهة كان واضحا من البداية انها مواجهة دموية خاسرة، طالما ان بن لادن يعيش آمنا راغدا الى جواره. ولا مانع من خسارة عشرة الاف «مؤمن» منذ بدء العمليات الاميركية في افغانستان، طالما ان حياة «امير المؤمنين» واجبة الحماية مهما كان السعر المدفوع. وفي النهاية يتخلى «امير المؤمنين» عن كل من آمن بإمارته وبايعه على الموت، ويتولى عند الزحف، طالما اصبحت حياته الشخصية هي الثمن هذه المرة. ولا يذكر «امير المؤمنين» الا ويذكر معه رفيق دربه بن لادن، ذاك الذي انفق ثروة لم يعان في جمعها على نشر العنف والصراع في ارجاء العالم، باسم الجهاد، وباسم قيم الاسلام والتأسي بالماضي من السلف، الصالح منهم والطالح على السواء. لا نرى صاحبنا هذا الا وهو يحمل رشاشه الاميركي الصنع في كل مكان يذهب اليه، مرتديا معطفه الاميركي المخطط، وساعته الاميركية المتعددة الاستعمالات، الا ان الرشاش يبقى هو الجانب الاهم في اي صورة تلتقط له. انه العنف، وهاجس العنف، والمرض بالعنف، ذاك الذي لا يفارق «امير المؤمنين» وصاحبه الطامع في زعامة وشهرة على حساب المضللين والمحبطين، ومن خدعوهم بمقولات دين جاء رحمة للعالمين، فإذا هو يتحول على ايديهم نقمة على اهله وعلى العالمين.

وان كان «اصحابنا» الثلاثة من الثملين بالايديولوجيا، والغارقين في هوس العنف وساديته، والضائعين في غياهب ماض حقيقي وموهوم، فإنهم من الباحثين عن مجد شخصي في اعماق ذواتهم. مجد شخصي يرتبط بانجاز يرون انه هو السبيل الى مثل هذا المجد، او ميزة لا يتفرد بها أحد سواهم، بغض النظر عن الثمن المدفوع من اجل هذا المجد، من ارواح تزهق، او كرامة انسانية تستهان، او مستقبل اطفال شاءت لهم الاقدار ان يخرجوا الى الدنيا في عهد من لا يرون من الدنيا الا انفسهم. لقد كان امية بن ابي الصلت، او عمرو بن هشام مثلا، من احكم الناس في فترة ما قبل الاسلام، وسار بذكر مآثرهم وحكمتهم الركبان. ولكن الاول كان يطمع في ان يكون النبي العربي المنتظر، والآخر كان يأمل في ان يكون سيد قومه. وعندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم، بما جاء به من الحق، انقلبت الحكمة لدى الاثنين جهالة عمياء لا تبقي ولا تذر. فالأول، امية بن ابي الصلت، منعته غيرته من اعتناق الاسلام، واصبح من اعداء الحكمة وهو الحكيم. والثاني، عمرو بن هشام، اصبح لا يعرف في التاريخ الا بـ «ابي جهل»، وقد اعماه غروره ومطامعه الذاتية من رؤية ما كان يجب ان يرى بعين غير العين التي طمستها الغيرة والغرور.

وبمثل ما كان عليه هذان الشخصان من طموح شخصي مسكر، فإن ذات الامر ينطبق على شخصيات الحديث هنا. فشارون يريد ان يكون مسيح اليهود الذي طال انتظاره، وصدام حسين يريد ان يكون مهدي العرب في آخر زمانهم، او محرر القدس صلاح الدين، على اسوأ الفروض. والملا عمر يريد ان يكون اميرا للمؤمنين ممن ينطبق عليهم قول جرير لعبد الملك بن مروان: ذو العرش قدر ان تكون خليفة، ملكت فاعل على المنابر واسلم. وكل هؤلاء، ومن فرى فريهم وانتهج نهجهم، يجدون في العنف الوسيلة الانجع لتحقيق ما يريدون تحقيقه من ناحية، ونوعا من اضفاء الهيبة الشخصية على ذواتهم، وهي هيبة مرتبطة بالرعب، من ناحية اخرى. وربما لو قمنا بدراسة سيكولوجية عميقة لمثل هؤلاء الافراد، لوجدنا انهم شخصيات سيكوباتية غير سوية من البداية، ولكن هذه قضية اخرى.

وبعيدا عن قضايا العنف والسيكولوجيا وما يدور في فلكها، فإننا نجد ان الشخصيات الثلاث مأسورة هي الاخرى ضمن الخطوط المتداخلة لثالوث الجهل السياسي، والعمى التاريخي، والحكمة الغائبة، وهو ذات الثالوث الذي حاول ان يحكم قبضته على عنق جورج دبليو بوش وادارته هذه الايام. فسواء كنا نتحدث عن شارون او صدام او الملا عمر، فمن الواضح انهم لا يرون ابعد من اقدامهم حين الممارسة الفعلية للسياسة. فشارون يعتقد انه بارهابه سوف يستطيع فرض حله الخاص، ومن ثم يدخل التاريخ اليهودي على انه هو من حقق المستحيل. يعتقد انه سوف يرحل الفلسطينيين في النهاية، ويقوض السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة، تلك التي تذكره بسلطة الفلسطينيين في غزة ايام شمشون ودليلة. فرغم القوة والجبروت اللتين يظهرهما شارون، الا انه في داخله خائف اشد الخوف، وما قسوته الظاهرة الا غطاء لرعبه الداخلي. فشمشون الجبار قضت عليه دليلة حين قصت شعره، وهو لا يريد لشعر اسرائيل ان يقص بأي حال من الاحوال، والمشكلة انه لا يدري متى ولا كيف يقص هذا الشعر ومن سيقصه في النهاية، ولذلك تراه يتخبط يمينا وشمالا، وقد اعماه الخوف والغرور والبحث عن دور تاريخي عن رؤية ما يمكن للوليد ان يراه، غير عالم انه يسير على خطى شمشون في الخاتمة: علي وعلى اعدائي يا رب. فنعم شارون سيدخل التاريخ، ولكنه لن يدخله على انه المسيح المنتظر او الملك ديفيد. فدائرة العنف التي استهلها شارون سوف تكون وبالا عليه وعلى شعبه في النهاية، اذ ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه في نهاية التحليل، ولو كان شارون حكيما، لوجد ان الوقاية خير من العلاج في نهاية الامر. فما يرفضه اليوم متغطرسا، سوف يصبح أمنية في المقبل من الايام، اذا استمرت دائرة العنف تحرق في طريقها كل اخضر ويابس، ولا تفرق في طريقها بين فلسطيني او اسرائيلي. فإذا كان شارون يحب شعبه فعلا، فعليه بالجنوح نحو السلام، ولكن يبقى الجاهل دائما عدو نفسه.

اما بالنسبة لـ «سجين بغداد»، الرئيس صدام حسين، فلا مزيد من القول، اذ يعرف القاصي قبل الداني كيف انه اضاع بلدا بأكمله. بلد كان مرشحا لكل مركز امامي بقدراته غير المتناهية، فإذا به يحول المرج الى حقل من هشيم تذروه رياح السموم.

اما الملا عمر، فله ان يبكي ملكا اضاعه حين لم يعترف بالسياسة، فلفظته السياسة من ميدانها. فحين جاءت حركة طالبان الى السلطة عام 1996، كان الجميع مؤيدا لها صراحة او ضمنا: الشعب الافغاني نفسه، ودول الجوار الاقليمي، والسعودية بثقلها المالي والاسلامي، وحتى الولايات المتحدة، وذلك انها كانت املاً في تحقيق الاستقرار لبلد غاب عنه الاستقرار طويلا، بغض النظر عن ايديولوجيته المنتمية الى عصور الظلام من تاريخ الاسلام.

ولكن طالبان مارست السياسة من بوابة هذه الايديولوجيا، مضافا اليها القناعات والطموحات الشخصية للملا عمر، بعيدا عن ألف باء السياسة، فكان ان اضاعت ملكا حق لها ان تبكي عليه كما تبكي النساء. ففي النهاية، فإن السلطة مثل السلاح القاتل، يرتد على صاحبه ان لم يكن عارفا بكيفية استعماله، وما اكثر من يملكون السلاح في منطقتنا، ولكنهم في امور هذا السلاح من الجاهلين. وقانا الله واياكم شر جهل الجاهلين، ممن يريدون اذا بلغ الفطام لهم رضيعا، تخر له الجبابرة ساجدينا!!