صالحة... للاستهلاك الظرفي والموقت

TT

تلك هي، وللاسف، امتنا العربية في حالتها الراهنة! منذ الحرب العالمية الاولى، وقبل التفكير باختراع فوط الورق الصالحة للاستهلاك الظرفي (Disposable)، وآلات التصوير المعدة للاستعمال مرة واحدة فقط،والغرب يتعامل مع امتنا العربية تعامله مع سلعة مخصصة « للاستعمال الظرفي والموقت »...فقط لا غير.

ابان الحرب العالمية الاولى، وعدها الغرب (البريطاني ـ الفرنسي آنذاك) بمكافأة ثورتها على الامبراطورية العثمانية ب«مملكة عربية» تعيد لها امجادها الغابرة، في المشرق على الاقل،وذهب الى حد اختيار مليكها... ليتركها، بعد انتصاره العسكري، مفتتة دويلات مستضعفة ومرتهنة بحمايته في المحافظة على كياناتها المصطنعة.

وابان الحرب العالمية الثانية وعد الغرب الدويلات العربية بمنحها استقلالا يضع حدا لنظامي الاستعمار والانتداب. الا انه لم يف بوعده الا مكرها، وفي اعقاب حروب استقلال مكلفة كانت حصيلتها العملية تحويل انتدابه المباشر الى انتداب غير مباشر.

وابان الحرب العراقية ـ الكويتية وعد الغرب (الاميركي ـ الاوروبي هذه المرة) امة العرب بحل مشكلتها المزمنة، النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، ردا لجميلها في التعاون مع حملته العسكرية. وما كادت بوادر نصره تلوح حتى رمى الغرب عبء التسوية وحملها على اكتاف العرب المفترض ان ينتزعوها عنوة من الاسرائيليين.

وفي حربه الراهنة على «الارهاب» بلغ تودد الغرب لامة العرب حد التلويح بقبول قيام الدولة الفلسطينية «القابلة للحياة» والضغط على اسرائيل لتنفيذ قرارات الامم المتحدة المنسية (بفضل ذاكرة الغرب الانتقائية ). وما كادت تتراءى في افق افغانستان تباشير النصر حتى انقلبت الآية رأسا على عقب فبدأ الغرب (الاميركي هذه المرة) بالسكوت عن استعمال اسرائيل «المفرط» للقوة لينتقل بعد ذلك الى اتهام الانتفاضة الفلسطينية بانها «ارهاب منظم » ويخلص، من ثم، الى استدعاء مبعوثه الخاص الى المنطقة بداعي «التشاور».

مشكلة أمة العرب مع النصر الاميركي على «جيش الحفاة» الطالباني في افغانستان انه شكل، في الوقت نفسه، هزيمة لوزارة الخارجية وكولن باول. فبعد هذا النصر السهل تراجع نفوذ باول لدى الرئيس جورج بوش بنسبة موازية لصعود نفوذ وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد والبنتاغون ـ علما بان رامسفيلد والبنتاغون كانا الجهة الاميركية الرسمية التي نصحت بوش بان لا يذهب بعيدا في التودد الى العرب وفي اعادة الاعتبار لياسر عرفات... لان جل ما تحتاجه هزيمة الطالبان هو تأمين دعم باكستان لحرب بالوكالة يكلف «التحالف الشمالي» بموجبها اتمام المهمة التي بدأتها قاذفات القنابل الاميركية الاستراتيجية « بي ـ52 » و«بي ـ 1» ـ المصممة اصلا لحمل القنابل والرؤوس النووية. باختصار، وبعد ان انهت واشنطن حرب افغانستان بأقل خسارة بشرية ممكنة وصنفت المقاومة الفلسطينية في خانة الارهاب المتوجب على عرفات قمعه، يتصرف البيت الابيض اليوم وكأنه نادم على موافقته على خطاب كولن باول الشهير (خطاب الدولة الفلسطينية)، ونادم على ايفاد الجنرال زيني الى المنطقة، ونادم قبل هذا وذاك على «تسرعه» في العودة الى التعاطي المباشر مع النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي... كيف لا وقد انتفت الحاجة الى الامة العربية ـ حتى كغطاء اعلامي اسلامي ـ قبل ان تنتهي الحرب في افغانستان لتعود، كما كانت، أمة تتفرج على الحدث تاركة للغرب وحده صناعة التاريخ.

لماذا نطالب الغرب الاميركي بممالأتنا وقد فشلنا، حتى الان، في تكذيب نظرته «التجارية» الى دور العرب «الظرفي» في عالم اليوم؟ الا ان السؤال يبقى: ألم يحن الوقت بعد لأن تعيد الامة العربية «اختراع نفسها» انطلاقا من معطياتها الاقتصادية الضخمة وموقعها الاستراتيجي الحساس لتبدأ بمخاطبة الغرب من موقع الفعل لا ردة الفعل؟

على هذا الصعيد قد يطول الحديث.ولكن التجربة الاوروبية في ملاقاة نفوذ الغرب الاميركي ـ ولا نقول مواجهته ـ بنفوذ مواز (وان كان لا يزال قيد التكوين) يبدو المثال المتاح اليوم لانتقال العرب من اطار «وحدة »جامعة الدول العربية ومؤتمرات القمة الدورية الى اطار وحدة متقدمة ومتماسكة تعكس ثقلهم الاقتصادي والاستراتيجي والسياسي...وتعطي كلمتهم مصداقية كافية لان تجد آذانا صاغية لها في الغربين الاوروبي والاميركي معا.