«استراحة المحارب» تأخرت ثلاثة أسابيع

TT

في بداية هذا الشهر كنت ضيفا مركزيا في برنامج «حديث الساعة» الذي يقدمه تلفزيون «المنار» التابع لـ «حزب الله» من بيروت، وكان محمود الزهار احد قادة «حماس» محاوراً أساسياً عبر الهاتف، الذي لم يتوقف على امتداد ساعتين، حيث كان النقاش يدور حول التطورات على الساحة الفلسطينية، وخصوصا مع وصول الموفد الاميركي: وليم بيرنز والجنرال انطوني زيني.

كانت قد حصلت عملية معبر اريز عشية وصول الوفد، ثم حصلت عملية العفولة صباح اليوم الثاني، حيث سارع الإسرائيليون الى القول ان العمليتين هما «رسالة ترحيب» فلسطينية بالوفد الاميركي. في حين قال زيني كما هو معروف، ان العمليتين تستهدفان اسقاط مهمته ولكنه يملك من التصميم والعناد ما يحول دون ذلك.

طبعا لا حاجة الآن الى القول ان زيني خرج ولم يعد أو انه قد لا يعود البتة، ربما لأن جوهر الموضوع ومحور البرنامج الذي اداره الزميل عماد مرمل، لم يكن يتعلق بمهمة زيني تحديدا، بل بالتطورات المحتملة في سياق الانتفاضة، ووتيرة الصراع الدامي المستمر منذ 15 شهرا في فلسطين المحتلة.

وعندما طرح عليّ السؤال المتعلق بعمليتي اريز والعفولة ومسارعة اسرائيل إلى استغلالهما سياسيا ودعائيا على النحو المعروف قلت ما معناه:

أولاً: ان أرييل شارون يحرص حرصا واضحا على افشال «الرؤية الاميركية» التي قدمتها الادارة الاميركية للشرق الأوسط، والتي دعت صراحة ولأول مرة على لسان الحزب الجمهوري الى قيام «دولة فلسطين». (وهناك فرق سياسي جوهري بين القول «دولة فلسطينية» و«دولة فلسطين» لأن الكلمة الثانية تنطوي على اقرار ضمني مهم بتاريخية الدولة الفلسطينية، عبر تنسيب هذه الدولة الى فلسطين).

وان شارون واللوبي الصهيوني خاضا معركة ضارية في اميركا وداخل الكونغرس تحديدا لافشال هذه الرؤية أو على الأقل للحيلولة دون ايجاد ترجمات سياسية وميدانية لها، ويجب ان لا ننسى في هذا السياق المذكرة التي وقعها 83 سيناتوراً ورفعوها الى جورج بوش مطالبين بعدم القسوة على اسرائيل.

ثانياً: ان ارييل شارون جاء ليهدم لا ليصلح أو يعمر وهذه طروحاته الانتخابية وممارساته في السلطة منذ عام تقريبا تشهد على ذلك، وهذا يعني انه لا يملك تصوراً للحل، أو حتى مجرد خطة للتفاوض والدليل انه اقام العراقيل تلو العراقيل للحيلولة دون وقف النار وتطبيق «ورقة تينيت» وجعل من اسبوع التهدئة كما هو معروف اسبوعا ابدياً، وانه اجتهد دائما لالقاء تبعات استمرار العنف على الفلسطينيين، وانه لا يريد هدم التسوية على المسار الفلسطيني، حيث اعتبر دائما «اتفاق أوسلو» جريمة يجب غسلها، وحسب بل يحلم بهدم التسوية على المستوى الاقليمي ايضا.

وبالتالي، ان المفيد جداً وضع شارون تحت اضواء كاشفة مع مجيء الوفد الاميركي، حيث لم يكن من الصعب ان يصل الى صدام أو على الاقل الى خلاف مع الاميركيين اذا توافرت الظروف التي تسمح بالدعوة الى استئناف المفاوضات.

ثالثاً: ان التداعيات الكبرى على المسرح السياسي الدولي بعد 11 ايلول (سبتمبر) ساهمت في تحطيم كل معالم التوازن الادنى في السياسة الدولية في الشرق الأوسط تحديدا، فأميركا مدعومة بالمجموعة الأوروبية وروسيا والصين والهند وكل دول العالم تقريبا، تحاول ان تلقي بظلال حرب افغانستان على الانتفاضة وحركة حماس والجهاد الاسلامي، حيث وصل الأمر حتى بالاصدقاء الأوروبيين الى اصدار بيان بروكسل الذي صنف حماس والجهاد حركتين «ارهابيتين» ودعا الى تفكيكهما.

وان شارون كان يتوق منذ 11 ايلول (سبتمبر) الى الحصول على وكالة اقليمية من التحالف الاميركي والدولي ضد «الإرهاب»، للقيام بذبح الانتفاضة وتدمير السلطة الفلسطينية التي ينهمك في قصف مقارها وبناها التحتية، ولكن اميركا حرصت على ابقائه جانبا كما حصل في حرب الخليج الثانية، لأنها تحرص على تماسك الجدار العربي في التحالف الدولي ضد الإرهاب.

وبعدما عددت هذه العناصر الثلاثة بابعادها السياسية والدبلوماسية والدعائية اقترحت في البرنامج المذكور، ان تعلن المنظمات الناشطة في الانتفاضة «استراحة محارب» مرحلية ومشروطة. بمعنى ان تدع شارون يصل الى استحقاقات محرجة مع زيني وبيرنز، عندما تتوقف عن العمليات ضد الاحتلال لفترة اسبوعين أو ثلاثة، بما يؤدي اما الى ان يواصل شارون المذبحة على عين الاميركيين والعالم، واما ان ندخل في مراحل «تقرير ميتشيل» توصلا الى استئناف المفاوضات فتكون الطامة الكبرى بالنسبة اليه.

ولانني أعرف حساسية هذا الاقتراح الذي قدمته على الهواء، حرصت على التذكير بأهمية ان لا تكون الانتفاضة عملا مقاوما واستشهاديا وبطوليا وعنفيا مشروعا ضد الاحتلال فحسب، بل ان تكون ايضا عقلا سياسيا وموقفا تكتيكيا واداء مناورا اذا قضت الحاجة الى ذلك.

مجرد استراحة محارب لاسبوعين أو ثلاثة تساعدنا في وضع شارون تحت مجهر زيني وانظار العالم. وكأنني بهذا الكلام اقترفت فرية، فقد ركزت كل الاتصالات من المستمعين على استغراب هذا الاقتراح.

ومن البحرين الى المغرب جاءت الأصوات تقول ان من غير المعقول ان نوقف الانتفاضة، وان شارون هو السفاك والمجرم ولا مجال للتعامل معه بغير العنف، وحاولت تكرارا ان أقول ان اقتراحي هو «مجرد استراحة محارب مرحلية» لا تعني في أي حال وقف الانتفاضة ولكن عبثاً.

طبعا لا حاجة الى التذكير بما حصل ميدانيا على الأرض منذ بداية هذا الشهر حتى الآن، لكن من الضروري ان نتوقف امام امرين تحديداً:

الأمر الأول، ان اربع حركات فلسطينية بينها حماس والجهاد وفتح الانتفاضة، عرضت وقف العمليات لمدة اسبوع قبل عشرة أيام ونيف، بعدما كان التصعيد التدميري المتوحش قد وصل بشارون الى ضرب السلطة الفلسطينية عبر رئيسها شخصياً واعتباره خارج اللعبة السياسية، ولكن هذا العرض جاء على ما يبدو متأخراً، فقد وصل التصعيد الدموي ضد الفلسطينيين الى مستوى كبير ولم يعد هناك وفد اميركي ينشط لوقف النار بحيث يلتقط هذا الاقتراح ويضعه في عيني شارون.

الأمر الثاني.. ان ياسر عرفات الذي بات يواجه احتمالات متزايدة تتمثل بامكان قيام شارون بتدمير السلطة الوطنية الفلسطينية، في وقت لا يقف شيء في وجهه، أي انه يمضي في جريمته على وقع الدعوات اليومية الى تفكيك حماس والجهاد ووقف العنف، وفي وقت يعجز هذا العالم العربي حتى عن عقد اجتماع شكلي للجنة المتابعة العربية المنبثقة من مؤتمر القمة الذي عقد في القاهرة العام الماضي لـ «بحث سبل دعم الانتفاضة».

في هذا الوقت وعند هذا الحد القى عرفات خطابه المدوي يوم الأحد الماضي، ثم بدأت قوات السلطة الفلسطينية حملة واسعة ضد مراكز وعناصر حماس والجهاد الاسلامي تحت شعار ضرورة تأكيد وحدانية السلطة الفلسطينية ووقف النار والعنف كمقدمة للعودة الى الحوار السياسي.

ورغم انخراط قوات السلطة الفلسطينية في تنفيذ محتويات خطاب عرفات لجهة توحيد الموقف، حيث ان حماس سارعت الى اعلان رفضها محتويات الخطاب، فإن مصادر في الجيش الاسرائيلي سارعت إلى التشكيك بامكان وقف «العنف» الذي تنفذه حماس وقالت ان حملة عرفات، ليست أكثر من «محاولة لافراغ البحر بملعقة»! طبعاً في وسع المراقب ان يقرأ ابعاد الانزعاج الاسرائيلي الضمني من الاجراءات الفلسطينية على خلفية الخشية من التوصل الى استحقاقات لا يريدها شارون ولا المستوى العسكري في اسرائيل، أي الهدوء الذي يفرض العودة الى فتح ملفات التفاوض.

وثمة في الواقع ما يدعو الى الذهول حيال التطورات على الساحة الفلسطينية، فالاعتراضات على محتوى خطاب عرفات لا تتوقف، ربما الى درجة جعلت جبريل الرجوب يقول يوم الثلثاء الماضي «ان السلطة لن تتهاون مع التنظيمات الأخرى التي تختار النشاط المدمر والمضرّ بالمصالح الفلسطينية حتى لو اقتضى الأمر المواجهة على الأرض»!.

طبعا ثمة ما يدعو الى الذهول امام هذه الكلمات «المواجهة على الأرض» ولكأن الفلسطينيين ينقصهم المزيد من المآسي والآلام والجروح والقتلى، أو لكأن لعنة الانقسام تحل بهم حتى عندما يقفون جميعا في موقع الضحية.

وطبعا ثمة ما يدعو الى الذهول أكثر، اذا تذكرنا ان المنظمات الاربع عرضت هدنة لمدة اسبوع على العدو الاسرائيلي، فكيف تبخل مثلا بهدنة ضمنية متفق عليها مع عرفات تستمر لمدة اسابيع وربما أشهر إذا كانت المصلحة الوطنية وموازين القوى تفرض مثل هذا الأمر؟!.

والساحة الفلسطينية مفتوحة على مزيد من المعاناة والمشاكل والضغوط والتضحيات. والسؤال الواهم يظل يحز في الجرح مثل السكين: ما كان يضيرنا لو اننا عرفنا كيف نعلن الهدنة المناسبة في الوقت المناسب؟