حوار مفتوح مع حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»

TT

منذ أن أذاع الرئيس ياسر عرفات خطابه الذي دعا فيه الى وقف العمليات المسلحة، ظهر جدل داخلي فلسطيني، تركز في جزء أساسي منه بين ممثلي السلطة وممثلي حركتي «حماس» و«الجهاد الاسلامي». وشهدنا كتابات ومناظرات تلفزيونية، تدافع وتشرح، أو تهاجم وتنتقد. وهذا الحوار مفيد وضروري، ولكنه قد يصبح مضرا حين يلجأ المتحاورون الى تبادل الاتهامات، أو الى النقاش بطريقة لا تجيب على الأسئلة الحقيقية المطروحة. المنتقدون لخطاب الرئيس عرفات، يتحدثون شارحين جملة مبادئ لا خلاف عليها. يتحدثون عن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال. يتحدثون عن نوايا اسرائيل ورئيس حكومتها ارييل شارون، والتي لا جدوى من التعامل معها لأن لها مخططات مبيتة، هدفها تدمير الشعب الفلسطيني وليس السلطة الفلسطينية فقط. يتحدثون عن سياسة الولايات المتحدة المنحازة سلفا الى جانب اسرائيل ضد الفلسطينيين، والتي تستخدم سلاح الفيتو في مجلس الأمن لحماية اسرائيل منذ العام 1948 حتى الآن. يتحدثون عن مأزق شارون وأن علينا أن لا نساعد شارون على الخروج من هذا المأزق. يدعون الى الاستفادة من تجربة «حزب الله» اللبناني، حيث أدى تمسكه بقضية المقاومة حتى النهاية الى خروج اسرائيل من جنوب لبنان. هذه هي أبرز الحجج التي يتمسك بها المعارضون لخطاب الرئيس عرفات، والتي قرأناها أو شاهدناها في المناظرات التلفزيونية، وعلى لسان رمضان شلح أمين عام حركة الجهاد الاسلامي، وخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. وبداية نقول ان هذه الآراء كلها صحيحة، وكلها تحظى بالاجماع في أوساط الشعب الفلسطيني، ولا خلاف عليها بين القيادات الفلسطينية، ولكن المشكلة هي أن موضوع الحوار والخلاف ليس هو هذه القضايا، ولذلك فان استمرار الحوار حولها، لن يقود الى أية نتيجة، ولا بد من طرح الموضوع الصحيح، وطرح الأسئلة الصحيحة، حتى يمكن للحوار أن يكون مجديا ومفيدا، ويصل الى نتائج تفيد في معالجة الوضع السياسي المستجد أمام القضية الفلسطينية، وليس أمام السلطة الفلسطينية فقط. ان هذا النوع من النقاش الدائر، يقع مباشرة في خطأ أساسي وكبير، لأنه يصور المشكلة بداية، وكأنها خلاف بين الفلسطينيين، وليس بين الفلسطينيين واسرائيل، أو بين الفلسطينيين وسياسة الولايات المتحدة الأميركية. هذا النقاش ينطلق ويبدأ من خطاب الرئيس ياسر عرفات، ولا يجيب على الأسئلة السياسية التي سبقت خطاب الرئيس عرفات وكانت السبب الأساسي في الوصول اليه. وهذا النوع من النقاش الدائر، نقاش مبتور، لا يمت الى التجربة النضالية الفلسطينية بصلة، لأنه نقاش ينطلق وكأن الثورة الفلسطينية قد بدأت اليوم، وبدايات الثورة تكون مترافقة دائما مع أسئلة مبدئية، عن حق الشعب في المقاومة، وعن شراسة العدو ولا جدوى الحوار معه الا بالسلاح، وعن حلفاء العدو وتنكرهم لأي مبدأ من مبادئ العدالة والشرعية الدولية. هذا هو حوار البدايات دائما لدى كل ثورة شعبية من أجل تحرير الوطن، ولكنه يتجدد بيننا اليوم بينما توشك الثورة الفلسطينية أن تدخل عامها السابع والثلاثين، وبينما عاش الشعب الفلسطيني تجربة انتفاضتين ضد المحتل، استمرت الأولى أكثر من ست سنوات، ودخلت الثانية عامها الثاني بعد أن زلزلت حكومة اسرائيل، وقدمت تضحيات أذهلت العالم. وهذا النوع من النقاش الدائر، يبرز الى السطح بشكل خاطئ، وكأنه حوار بين أطراف متناقضة، أطراف تدعو الى النضال وأطراف تتنكر له، بينما تقول الوقائع الحية إن الذين يوضعون في موضع الاتهام اليوم هم الذين قادوا النضال المسلح سنوات طويلة، وهم الذين هيأوا بنضالهم الشروط الموضوعية لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهم أيضا الذين شاركوا في الانتفاضة الثانية وكانوا ركنا أساسيا من أركانها، بينما تكاد توحي نقاشات اليوم، ان هناك طرفا يريد النضال ومقاومة الاحتلال، وطرفاً يتنكب عن طريق النضال ويريد أن ينحني أمام الاحتلال. وحين يسير النقاش حسب هذه الأسس يتحول الى نقاش خاطئ، ويسير باتجاه خاطئ، ويصل الى نتائج خاطئة، ولا بد أولا من اعادة النقاش الى وضعه الصحيح، وطرح الأسئلة السياسية الصحيحة، من أجل الوصول الى أجوبة صحيحة، وما عدا ذلك عبث وتكرار وتأجيج لنار الانقسام، وخداع للشعب الذي يتم اشغاله بنقاشات لا جدوى منها. ان النقاش المجدي الذي ندعو اليه، لا بد له أن يسلم سلفا بالعديد من الأمور المحيطة بنا، وتكاد تملأ الهواء علينا، ولكن لا أحد يريد أن يراها حين يبدأ الحوار. أبرز هذه الأمور: أولا: المتغيرات السياسية. فخطاب عرفات لم ينبع من الفراغ، انما جاء وليد هذه المتغيرات. والعنوان الأساسي لها هو أحداث 11 سبتمبر (أيلول) التي هزت أميركا والعالم، وأنتجت حربا أميركية يسميها البعض حربا عالمية، وهي حرب تمس منطقتنا العربية الاسلامية مسا مباشرا، بحيث أن أحدا لا يستطيع أن يتعامل مع القضايا النضالية بعيدا عنها، ومهما كان موقفه منها سلبا أو ايجابا. وارتبطت هذه المتغيرات التي هزت أميركا بحلف دولي عماده الدول الأوروبية وروسيا، وهي دول أحدثت تغييرا في خطابها السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية اقتربت فيه من الولايات المتحدة، حتى أننا بتنا نسمع لغة أوروبية جديدة، ولغة روسية جديدة. وتمس هذه المتغيرات الأميركية والدولية الوضع العربي، وتضعه تحت مظلة التهديد، فلبنان وسوريا والعراق وفلسطين، مهددة بالمعنى العسكري، ومصر والسعودية مهددتان بالمعنى السياسي والاستراتيجي، ولا يستطيع أي موقف سياسي فلسطيني أن يعزل نفسه عن الوضع العربي وهمومه، أوعن الوضع العربي ومدى قدرته على مواجهة مثل هذا التحدي، أو معرفة نوع رد الفعل الذي سيكون له. أما الذين يميلون الى معالجة الموضوع الفلسطيني وكأنه موضوع معلق في الهواء، لا تأثير فيه للمتغيرات الدولية ولا للمتغيرات العربية، فهم يتناقضون مع أبسط مبدأ من مبادئ فهم القضية الفلسطينية، التي نتجت أصلا عن موقف دولي (استعماري)، وكانت دائما قضية عربية، كما بشر بذلك الفلسطينيون جميعا. ثانيا: الانحياز الأميركي لشارون. وهو انحياز قديم، ولكنه كان دائما محكوما بضوابط سياسية. وفي مواجهات الانتفاضة، كانت الضوابط الأميركية لشارون تتركز في ثلاث نقاط: ان نضال الفلسطينيين يقع خارج نطاق ما يسمى بالارهاب، وان العنف الاسرائيلي لا يجوز له أن يمس بالسلطة الفلسطينية أو بالأرض التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، وأخيرا فان العنف الاسرائيلي عليه أن يحذر من اندلاع حرب اقليمية في المنطقة. وضمن هذه الضوابط شن شارون حملاته ضد الشعب الفلسطيني وضد الانتفاضة، وصمد الشعب الفلسطيني أمام تلك الهجمات بأفقها السياسي المعروف، وأدى صموده الى فشل شارون في فرض الحل الأمني على الانتفاضة، ونشأ هنا ما يعرف باسم مأزق شارون السياسي كزعيم وعد شعبه بالأمن عن طريق استعمال القوة وفشل في تحقيق وعده. ولكن الرئيس الأميركي جورج بوش لم يقف عند هذه الحدود، وفي لقائه الأخير مع شارون أعطاه ضوءا أخضر ليفعل كل ما يراه مناسبا له عسكريا، وهو ما كان ينتظره شارون منذ أشهر طويلة، وعند هذه النقطة لم يعد شارون في مأزق، لقد خرج من مأزقه السياسي بمساعدة أميركية، وانضاف الى هذا كله أمر هام آخر، اذ اعتبرت الادارة الأميركية المقاومة الفلسطينية للاحتلال ارهابا، وكان ذلك يعني أن المعركة ستنتقل من أفغانستان الى فلسطين، وسيكون جيش اسرائيل هو أداة هذه المعركة الجديدة. عند هذه النقطة، وعند هذه النقطة فقط، تحرك الرئيس ياسر عرفات وأذاع خطابه. لم يفعل ذلك على امتداد المعركة مع شارون وجيشه، ولكنه فعل ذلك عندما أصبحت المعركة مفتوحة مباشرة مع الولايات المتحدة، واذا قال عرفات انه لا يستطيع أن يقاتل الولايات المتحدة فلا أحد يستطيع أن يلومه في ذلك، ولا أحد يستطيع ان يتهمه في صلابته أو شجاعته. ثالثا: أساليب العمل. تنطلق الثورات وقد اتخذت قرارها السياسي باللجوء الى السلاح من أجل مقاومة المحتل، ولكن درجة استخدام السلاح قرار تنفرد به القيادة وحدها. لماذا؟ لأن درجة استخدام السلاح هي قرار سياسي أيضا، ومن الخطأ هنا رد المسألة الى نقطة مبدئية واحدة تقول: نقاوم أو لا نقاوم. ان المقاومة هي الثابت الأساسي الدائم، أما أسلوب المقاومة ونوعها ودرجتها، فهو المتغير الدائم، حسب المصلحة، وحسب الظروف، وحسب الضغوط، وحسب الأوضاع السياسية المحيطة. والقائد السياسي الذي لا يفعل ذلك لا يكون قائدا ثوريا، بل مجرد مغامر عسكري تشهد الثورات دائما كثيرا من أمثاله. الثورة الفلسطينية مثلا، وفي ذروة نشاطها في لبنان ضد المستوطنات الاسرائيلية، عقدت اتفاقا لوقف اطلاق النار مع اسرائيل عبر وساطة الأمم المتحدة، ولم يقل أحد يومها ان الثورة قد تراجعت، بل قال الكثيرون إن الثورة حققت نصرا، لأن اسرائيل قبلت أن تتفاوض معها. «حزب الله» في لبنان، كان نموذجا يحتذى في تقدير الموقف السياسي، وفي تصعيد هجماته أو تبريدها، أو حتى توقيفها، بناء على الموقف السياسي المحيط به وبحلفائه. لم يكن حزب الله يعمل حسب قاعدة تقديس القوة، انما كان يعمل بحسابات مدروسة، فاطلاق صاروخ يختلف عن اطلاق عشرة، واعتراض دورية اسرائيلية يختلف عن هجوم داخل اسرائيل نفسها. ثم أن حزب الله كان طرفا أساسيا في عقد اتفاق مع اسرائيل عرف باسم «تفاهم نيسان»، التزم فيه حزب الله أن يقاوم الاحتلال وأن لا يضرب داخل اسرائيل، وأن لا يضرب المدنيين. ولم يقل أحد أن حزب الله قد ضعف أو تراجع، بل فعل ما هو مفيد من ضمن الظروف السياسية المحيطة به. الثورة الجزائرية. ناضلت بالسلاح طويلا وازعجت الاحتلال الفرنسي، الى أن جاء الجنرال ديغول وقرر شن حرب ضد الثورة على قاعدة «الأرض المحروقة»، وقد ضرب وقتل ودمر، ووصل الى وضع كان يستطيع أن يقول فيه انه تم القضاء على الثورة الجزائرية. ماذا فعلت الثورة الجزائرية في تلك اللحظة، لم تدخل في جدل نظري: هل نقاوم أو لا نقاوم؟ كانت تدرك أن قدرتها على المقاومة قد أصبحت ضعيفة، فلجأت الى العمل السياسي، أصدرت قرارا بدعوة الشعب الجزائري الى الاضراب، فأضربت الجزائر كلها، فأدرك الجنرال ديغول، وهو في لحظة انتصاره العسكري، أنه خاسر ولا بد لهذه المعركة من نهاية، لأن الشعب بأكمله يؤيد قرار الثورة. بماذا تفيد هذه الأمثلة؟ بنقطة واحدة فقط، وهي أن قرار المقاومة للاحتلال يجب أن يبقى هو الثابت دائما، أما أسلوب المقاومة فهو أمر متغير، يكون عنيفا مرة، وبطيئا مرة أخرى، يكون بالسلاح مرة وبالسياسة مرة أخرى، ويتقرر كل ذلك على ضوء الامكانات الذاتية، وعلى ضوء مخطط الخصم، وعلى ضوء التغيرات السياسية المحيطة. وتتحدد كفاءة القيادة السياسية بمقدار قدرتها على التعامل مع هذه الأمور مجتمعة. هذه هي القضايا التي يجب أن تناقش في الساحة الفلسطينية الآن، ولو أنها موضوعة للنقاش فعلا فان امكانية الوصول الى أجوبة موحدة، أو على الأقل متقاربة، ستكون امكانية كبيرة. ولا بد أخيرا من القول، ان مسؤولية التعامل مع هذه الاسئلة هي مسؤولية الجميع، وليست مسؤولية الرئيس ياسر عرفات وحده، وكان حريا بحركتي حماس والجهاد الاسلامي، واللتين أصبحتا عنوانا بارزا من عناوين المعركة الأميركية ــ الشارونية ضد الشعب الفلسطيني، أن تكونا المبادرتين لهذا النوع من النقاش، لتستخلصا نتائجه العملية، من أجل حماية تنظيميهما وادخار قوتهما النضالية، كجزء من القوة النضالية للشعب الفلسطيني كله.