فلسطينيو الداخل ومعركة الهوية

TT

قديمة هي محاولة إلصاق مصطلح «الأسرلة» ـ من منطلق توجيه التهمة ـ بالحزب الشيوعي في إسرائيل (راكح)، لكن «الجديد» الذي حاول بلال الحسن أن يأتي به لإظهار تفرّده عن غيره في هذا التكرار، في مقالته المعنونة «فلسطينيو الداخل يخوضون معركة الدفاع عن هويتهم القومية» («الشرق الأوسط» 26/11/2001)، يكمن في اعتماده لغة ينزلق القلم إليها، تزعم استحضار الحقيقة أمام غير العارفين، في محاولة لإلباس الكلام ثوب المعرفة.

في مقالته تلك، يصطنع الحسن، لغة تخدع قارئها وتتحايل عليه. فما دام الحديث عن «الأسرلة»، فإنه يجيز لقلمه، ضمن منطقه، أن يختزل نضال الشيوعيين، على مدى عشرات السنين، ويحشره في حدود «التدجين» وجعل الفلسطينيين في الداخل «مثل الإسرائيليين».

مسدود هو أفق المعرفة في هذا الطرح، لا منفذ له سوى الاتّكاء على أفكار وطروحات عزمي بشارة لمناطحة الحزب الشيوعي، ذلك أن شرط المناطحة هو، بالضبط، اختلاق البديل وعرضه بأسلوب ممتع مشوّق في نص يدور، من البداية حتى النهاية، في دائرة التسويق والتشويق بعزمي بشارة وبطروحاته. وللتوضيح نقول، إن الحملة التي يتعرض لها عزمي بشارة حالياً، من قبل المؤسسة الإسرائيلية هي معركتنا جميعاً، نتصدّى لها سوية ونقف إلى جانبه وندعمه فيها، ولا أحد يستطيع أن يزايد علينا في هذا المجال. الحسن يقع في مقاله في مطبّات عديدة، أولاً: خاطئ حتى حدود الفرية القول بأن «النواب العرب في الكنيست، ولسنوات طويلة، ترشّحوا على قوائم الأحزاب الصهيونية، وأنهم شكّلوا أحزابهم المستقلة بعد أن انفصلوا عن الأحزاب الصهيونية، ففازوا بالانتخابات على أساس ذلك، إنما بعد أن مرّوا بمرحلة التعاون مع الصهيونية». فالنواب العرب: توفيق طوبي واميل حبيبي وتوفيق زياد، دخلوا الكنيست من باب الحزب الشيوعي ومن ثم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، دخلوها من على منصة نضالية وطنية تقدمية معتزين بانتمائهم العربي الفلسطيني.

ثانياً: ان وضع النواب العرب، في سلة واحدة، ضمن القوائم والأحزاب الصهيونية أو ضمن «التعاون» مع الأحزاب الصهيونية، لا يشكل استقالة من الحقيقة التاريخية فحسب، إنما تشويهاً مقصوداً لايهام القارئ، تلبية لاحتياجات أهداف المقال، بأن العربي الفلسطيني في الداخل لم «يكتشف» هويته الوطنية والقومية إلا بعد صدور «أبحاث» و«كتابات» و«خطابات» عزمي بشارة في أواخر سنوات التسعينات، كما يستدل من المقالة. لا نظلم الحسن حين نقول إنه قصد تشطيب مسيرة الحزب الشيوعي النضالية من موقع الضد، لكن الحزب ليس في موقع الدفاع عن النفس، إنما في موقع الهجوم في هذه المسألة تحديداً. فهو الذي قاد الأقلية الفلسطينية التي بقيت في وطنها في شتى المعارك والكفاحات في سنوات الخمسينات والستينات، عندما كان للنضال ثمن يدفع بالسجون والتعذيب والملاحقات وقطع الأرزاق، فبعد محطة النضال من أجل البقاء في الوطن، جاءت محطة تبلور هذه الجماهير كأقلية قومية في إسرائيل تكافح من أجل حقوقها، ونوجز هذه المسيرة على النحو التالي:

* معارك البقاء، حين كان الشيوعيون يرمون بأجسادهم أمام شاحنات الترحيل لمنعها من مغادرة البلدات العربية الفلسطينية وهي محمّلة بالألوف من الرجال والنساء والأطفال.

* معارك التصدي للحكم العسكري والقمع والترهيب وقطع الأرزاق، إلى حد التدخل المباشر لمنع زواج العريس من عروسه لمجرد أن العريس يقرأ صحيفة «الاتحاد» الحيفاوية الشيوعية.

* معارك التصدي لتذويب الهوية الثقافية، القومية التقدمية، والحفاظ على اللغة العربية من الاندثار وحماية ثقافتنا وتراثنا وحضارتنا ولغتنا وهويتنا من خلال ادبيات الحزب الشيوعي: «الاتحاد» و«الجديد» و«الغد» و«الدرب».

من هذا الموقع، الشيوعي التقدمي الأصيل، خرج شعر المقاومة ورموزه: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وغيرهم. ومن هذه الحاضنة، خرج الفكر القومي التقدمي في أحلك الظروف وأقساها.

* معركة الأرض، وهي ليست مجرد معركة، يلخصها الحسن بكلمتين. الأرض تعني لنا الوجود والبقاء والتطور والقضية. نحن أصحاب الأرض والوطن الأصليون. وقرار الإعلان عن يوم الأرض الخالد عام 1976، صدر ضمن هذه الرؤية وهذا المفهوم. وقد صدر عن القيادة الشيوعية، عن اعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي في إسرائيل، الذين قرّروا تحدي السلطة ومواجهة أوامر مصادرة الأراضي العربية مهما كلّف الثمن.

لقد أرادت إسرائيل لنا أن نبقى حطّابين وسقاة ماء، أقلية صغيرة ضعيفة تذوب في المجتمع اليهودي، بدون أرض وبدون لغة وبدون حضارة، تعاني من تمييز عنصري، هو الابرتهايد بعينه، دون أن تقوى على المقاومة. فوقف الحزب الشيوعي على رأس المقاومين لهذا المخطط.

في لغة الحسن علينا أن نتأول النص حسب منطقه، وقد تأوّلناه على وجه نوجزه فنقول: على شعبنا، هنا في إسرائيل، أن يمتنع عن الاقتراب من أية مؤسسة، تعليمية أو أكاديمية أو نقابية أو بلدية، لأنها تتبع لدولة إسرائيل، وبالتالي فهو يدعونا، من شدة الطهارة، أن «نعملها» تحتنا!.

وإذا كان الأمر كذلك، وهو ما يفهم ضمنياً من طرح الحسن، خاصة حين يصف هذا السلوك بالأسرلة، فإنه يناقض نفسه، إذ ضمن سياق هذا المنطق، كان مفترضاً ان يعارض الحسن دخول عزمي بشارة إلى البرلمان لأنه يخوض معركة الانتخابات للكنيست الإسرائيلي «مثل الإسرائيليين»، أليس كذلك؟.

إن من يتحدث عن «الأسرلة»، من خلال تفسير خاطئ مشوّه، نقول له إن قمة الأسرلة كانت كامنة في الترشيح لمنصب رئيس حكومة دولة إسرائيل. والذي أعلن ترشيحه هو عزمي بشارة. وأنا هنا لا أتعامل مع الفكرة بالنقد، إنما استحضرها للتوضيح فقط. ثم ماذا تخفي وراءها مقولة «دولة كل مواطنيها» التي يطرحها عزمي بشارة، كعنوان أساسي مركزي تدور كل طروحاته في دائرته، والتي اعتبرها بلال الحسن ـ هكذا خبط لزق ـ بأنها «فهم جديد» و«مرحلة» جديدة في النضال من أجل «الدفاع عن الهوية القومية»؟، قضيتنا ليست حقوقاً مدنية، ثم نضع نقطة. هكذا أفهم من مطلب المواطنة: المطالبة بالحقوق المدنية فقط. قضيتنا قضية قومية، وعلى المؤسسة الإسرائيلية أن تعترف بنا كأقلية قومية، أن تعترف بنا كأصحاب الوطن الأصليين، وأن تتعامل معنا على هذا الأساس، بعيداً عن نهج التمييز العنصري والقهر القومي ومصادرة الأراضي والخنق وتحويل مدننا وقرانا العربية الفلسطينية داخل إسرائيل إلى كانتونات محاصرة من كل اتجاه بالمستوطنات اليهودية.

لا نعرف، بالضبط، ماذا يريد بلال الحسن منا. فالصدق القومي لا يكون بعلو الشعار ولا بالركوب على يأس الناس. نحن أحوج ما نكون إلى مراجعة نقدية مع الذات. نحن، مع الأغلبية الساحقة جداً من شعبنا، قبلنا بمبدأ «دولتان لشعبين»، دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل. لذلك فإن أفق الحل للفلسطينيين في إسرائيل يختلف عنه للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، هذه هي الحقيقة وهذا هو الواقع.

أن تقول: «أنا ضد الدمج»، فالمعنى واضح، لكن كيف يستقيم هذا الطرح، على سبيل المثال لا الحصر، مع طرح آخر لعزمي بشارة نفسه، يدعو فيه، بشكل واضح ومباشر وبخط مستقيم، إلى دمج ـ نعم «دمج»، وبالحرف الواحد ـ الاكاديميين العرب الفلسطينيين في إسرائيل في المؤسسات الإسرائيلية؟، كيف يستقيم رفض «الدمج» مع مطلب الدمج أو مطلب المواطنة، وهل نطلب المواطنة في المريخ مثلا؟ إن عزمي بشارة يطلبها من دولة إسرائيل؟

الطريف في الأمر، أن بلال الحسن اندفع في مقاله حماساً وتسويقاً، إلى درجة نفي ذلك المطلب، والذي شقّه الحزب الشيوعي بالتضحيات والنضالات، والداعي إلى الاعتراف بالفلسطينيين في إسرائيل كأقلية قومية. لقد أكد الحزب الشيوعي، في أحد قرارات مؤتمراته، منذ سنين طويلة، على أن الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل هي جزء لا يتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني. واتخذ هذا القرار يوم كان «ظلم ذوي القربى» على أشده، حيث كان العالم العربي، وربما أيضاً بلال الحسن، يعتبرنا «متأسرلين» لمجرد اجتراحنا معجزة البقاء في وطننا.

من حق الحسن أن يختار لغته، لكن «أهل مكة أدرى بشعابها»، ونقول أكثر من ذلك: تسعدنا حالة الاجتهادات ونشجعها. ففي صراعات الأفكار والاجتهادات والطروحات تولد المعرفة، لكننا لا نعيش، كأقلية قومية عربية فلسطينية في إسرائيل، في كانتونات مستقلة. بل نعيش في دولة إسرائيل، مهما كانت هذه الحقيقة لا تروق للبعض، لكنها الواقع. ونحن نناضل من أجل التغيير داخل المجتمع اليهودي، وبالتالي المجتمع الإسرائيلي، باتجاه الاقتراب أكثر من مواقفنا.

تجربتنا في وطننا علّمتنا الكثير، ومن هذا الكثير أن لا نقود أنفسنا بجعجعة كلامية شعاراتية، ونقود شعبنا، ضمن خصوصيتنا هنا، إلى حالة من الضياع والفوضى تستغلها المؤسسة الإسرائيلية لإنزال الكوارث بشعبنا، في وقت عادت فكرة الترانسفير والترحيل لتحتل مساحة، وهذه المرة علناً، في أروقة الحكم في إسرائيل، وفي الأوساط المخابراتية الأكاديمية، ولدى قطاع واسع داخل قوى التطرف الصهيونية. ونحن نحاول أن نضغط على الأعصاب المكشوفة للمجتمع الإسرائيلي. ولن نتنازل عن هذا التوجه ولن نعفي المجتمع الإسرائيلي والخارطة السياسية من إعطاء الأجوبة عن الأسئلة الكبيرة، من قضية السلام ووقف الاحتلال والعدوان على شعبنا الفلسطيني والضغط باتجاه احقاق حقوقه المشروعة، وفي مقدمتها تقرير المصير والاستقلال والعودة وتحرير القدس، إلى قضايا تتعلق بنا، هنا، كأقلية قومية ستبقى تعيش في دولة إسرائيل، لأنها باقية في وطنها بعد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهي قضايا الاعتراف بنا كأقلية قومية وقضايا المساواة والتطور في وطننا والحقوق القومية والمدنية، وقضية مبنى الدولة ورموزها وقضايا الديمقراطية والعدالة والتقدم.

ومؤسف أن أقول إنه لم نقع على مدى عشرات السنوات الماضية فريسة سهلة لعملية التلاعب بمصيرنا، بحاضرنا ومستقبلنا، أكثر مما هو حادث اليوم، مع العلم بأن كل ذلك يجري تحت شعارات زيادة الوعي.

لا ندعي احتكار الحقيقة، فالموضوع مطروح للنقاش والحوار، فهل ما كتبناه هو «تدجين» و«أسرلة»؟ سؤال نطرحه لإشغال العقل والمنطق؟!

* كاتب صحافي وإعلامي فلسطيني مقيم في الناصرة