الحرب على أفغانستان.. مشهدان يدلان على تورط الجماعات الإسلامية

TT

تسجل الحرب الامريكية ضد أفغانستان، المرة الثانية التي يتورط فيها بعض الاسلاميين في محاولة فرز الاوراق المختلطة وتحديد مواقف صارمة تستمد شرعيتها من ادعاء بفهم واقع الامور وابعادها المستقبلية. وكانت المرة الاولى اثناء حرب الخليج قبل عشرة اعوام، حيث تشابكت مجموعة خيوط دقيقة احتاجت لنوع من التمهل لفكها قبل اطلاق الاحكام وتحديد المواقف. واكدت الحربان اهمية فهم ابعاد الواقع الحقيقية من غير تهوين ولا مبالغة ولا تقليل من شأن الخطر المحدق في نفس الوقت. اقول هذا الكلام بمناسبة تزامن مشهدين لهما علاقة بأوضاع المسلمين في الغرب، المشهد الاول، خاص بسلسلة الفتاوى التي اطلقها بعض المشايخ والمفكرين المعروفين باعتناقهم الخاص بما يسمى بـ «فقه الاقليات المسلمة في الغرب»، وهو فقه مبني على اهمية الحفاظ على مصلحة المسلمين في الغرب ومكتسبات وجودهم الاجتماعية والسياسية باعتبارها «دار دعوة» و«دار عهد» وليست «دار حرب» او «دار كفر». اما المشهد الثاني، فخاص بتنازع المسلمين في الغرب حول تحديد مكمن مصالحهم مما يجري على الساحة. وبالنسبة للمشهد الاول، فإن فريقا من المفكرين المتعاطين للشأن الاسلامي في الغرب، يعتقد مدفوعا بنيات طيبة بأن على المسلمين ان يثبتوا براءتهم وحسن نياتهم للغرب كي لا يتم اعتبارهم «طابورا خامسا»، وبالتالي يعرضون انفسهم للخطر. فالجندي الامريكي او البريطاني المسلم مثلا لا ينبغي له ان يتخلف عن الانضمام للحرب ضد افغانستان اذا تحتم عليه ذلك، لانه ملزم باحترام عهده مع غير المسلمين، باعتباره مواطنا له حقوق وعليه واجبات سياسية واخلاقية نحو واشنطن او لندن.

وهذا الكلام صحيح مبدئيا، لكن تطبيقه على الحرب لا يحتاج لعلم شرعي او نظري فقط وانما لاستيعاب الواقع ايضا، كما هو معروف في شروط الفقيه والمفتي. والانطباع العام لدى كثير من العرب ـ والمشايخ منهم ـ بأن حياة المسلمين في الغرب اصبحت رهن موقفهم من 11 سبتمبر والحرب، وان أي اخطاء في تقدير المواقف ستفضي لمذبحة تستهدف الوجود الاسلامي، كما حدث في البوسنة والهرسك. وهو اعتقاد لا شك فيه مبالغة عززتها بعض المطبوعات الاسلامية والعربية التي اعطت مساحات اكبر من المطلوب للحوادث المعدودة التي تعرض لها المسلمون في امريكا وبريطانيا من مجموعات عنصرية. وخلقت هذه المساحات انطباعات مغلوطة بأن كل امرأة محجبة في الغرب اصبحت عرضة للتحرش، وكل ملتح عرضة للاعتداء. واصبح العيش تحت هذا القلق على المسلمين في الغرب يشكل ضغطا حقيقيا على هؤلاء المشايخ أثر بلا شك على خطابهم ولعب دورا حاسما في صياغة مجمل فتاواهم.

لكن الحقيقة هي ان المسلمين في الغرب لم يصلوا لدرجة السوء التي يتصورها الكثيرون، ولم تبلغ درجة معاناتهم درجة اليابانيين مثلا بعد الحرب العالمية الثانية. على العكس تحققت للمسلمين، الى جانب الخسائر، قائمة مقابلة من المكاسب: منها ان الرئيس الامريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير برآ ساحة الاسلام من عمليات العنف والارهاب ـ وهو اتجاه جديد في السياسات الغربية يدل على ثقل الوزن الاسلامي الذي تقول بعض التقارير إنه دخل حلبة المنافسة مع الوجود اليهودي المتنفذ. ومنها ان الخطاب الاعلامي، في ما عدا الايام الاولى لتفجيرات نيويورك وواشنطن، تحسن بصورة مقصودة او غير مقصودة لصالح المسلمين. فنقص المواد الاعلامية الخاصة بالحرب، مقارنة بوفرتها عبر شبكة CNN الامريكية خلال حرب الخليج، جعلت وسائل الاعلام تفتح نوافذها باتساع ملحوظ امام مساهمات جادة من المسلمين. وصرنا نصنفها بأنها ظاهرة مألوفة ان نرى على شاشات التلفزيون والاذاعات البريطانية والامريكية وجوها واصواتا قيادات اسلامية كانت محرومة في السابق من تعتيم اعلامي متعمد. ومن المكاسب ان التصدي للحرب او معارضتها لم يعد موقفا اسلاميا صرفا حتى يشعر المسلمون بأنهم اقلية يجب ان تعبر عن مواقفها على استحياء، وانما هو موقف شريحة كبيرة من الرأي العام ـ خاصة البريطاني ـ الذي يرى أنه كان بالامكان التعامل مع الارهاب بطرق أخرى وان الانخراط في مواجهة عسكرية لن يحسم ملف الارهاب بالضرورة وانما قد يفضي للتورط في مستنقعات متتالية غير مأمونة العواقب. وهذا المكسب الاخير، اي موقف الرأي العام الغربي، هو الذي يشكل «الرادع الواقي» الذي يحتمي بداخله الوجود الاسلامي امام لكمات مبعثرة وشاذة من اقليات عنصرية وليس بالضرورة فتاوى المشايخ التي تبث من المشرق عبر الفضائيات وشبكات الانترنت مطالبة المسلمين بـ«ضبط النفس» و«أداء ضريبة المواطنة بالسمع والطاعة دفعا للمفسدة».

واما المشهد الثاني، فخاص بالمسلمين الموجودين في الغرب ومستقبل علاقتهم بالحكومات والبلدان التي يعيشون فيها. ولنأخذ المسلمين في بريطانيا نموذجا. فالمجلس الاسلامي البريطاني MCB مثلا هو المنظمة التي تمثل المسلمين لدى الحكومة البريطانية، وهذا لا يجعلها في موقف تحسد عليه، لانها في النهاية واقعة بين سندان الحكومة ومطرقة مطالب المسلمين. ولا شك في ان هذا يفرض على القائمين عليها ضغوطا كبيرة في محاولة التوفيق بين الطرفين حفاظا على هذه المنظمة المعتدلة من التحلل والانهيار. لكن الذي حصل مؤخرا بشأن تحديد موقف المجلس من الحرب ضد افغانستان، والذي سيفهم ضمنا بأنه ذاته رأي المسلمين في بريطانيا، دل على صعوبة اجراء هذا التوفيق بحجة نفس المبررات التي هيمنت على المشهد الاول: اي تحديد اين تقع مصلحة المسلمين؟ ففي الاجتماع الخاص الذي عقده المجلس لصياغة بيان الحرب، نشب خلاف ملحوظ بين الاعضاء، حيث كانت اقلية ترى ان يكون البيان مؤيدا للحرب، فيما خالفت الغالبية هذا التوجه وطالبت ببيان يندد بالحرب، وكل يبارز بنفس المبررات: مصلحة المسلمين. وكان الذين يؤيدون الحرب يفترضون أن ذلك سيجنب المجلس تعكير صفو العلاقات «الجيدة» التي راكموها مع 10 داونينغ ستريت ومع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير تحديدا، وسيضر بسمعة المسلمين ويعرضهم للأذى.

والحقيقة ان الذين كانوا يفكرون في استصدار بيان مؤيد للحرب بهذه الحجة لم يكن ينقصهم فهم واقع المسلمين الحقيقي، كما في حالة المشهد الاول الخاص بفتوى بعض المشايخ والمعنيين بالهم الاسلامي في الغرب، وانما بدا للملاحظين وكأنهم كانوا يريدون الحفاظ على علاقات «حسنة» مع بلير لتحقيق طموحات محدودة ليست لها علاقة تلقائية بالضرورة مع الوجود الاسلامي. وعلى الرغم من ان المجلس الاسلامي البريطاني اصدر في النهاية بيانه المندد للحرب، الا ان الاجتماع المغلق بين اعضائه سجل سابقة خطيرة لإمكانية اندلاع فتنة يسقط فيها الاسلاميون مستقبلا مثلما سقط بعضهم اثناء حرب الخليج.

* باحث بجامعة «اكستر» البريطانية