رسول المحبة

TT

الذكرى تمر للعبرة، ومن لا يريد ان يعتبر ليس من الضروري ان يتذكر، وفي عيد ميلاد المسيح عليه السلام ما اجمل ان نتذكر رسالة التسامح واللاعنف التي جاء بها، فهو القائل «من صفعك على خدك الايمن ادر له الايسر، ومن اكرهك على السير معه ميلا سر معه ميلين».

والبعض يرى في تكرار هذه الاقوال في عز طغيان شارون مضيعة للوقت، ومدعاة للتخاذل. وهؤلاء ربما لا يعرفون ان المسيح عليه السلام قال ذلك الكلام الاشهر في جبال الجليل وفي ظروف مماثلة، فقد كانت روما في عز طغيانها مثل واشنطن هذه الايام، وكان ولاتها في الاقاليم، ومنها فلسطين، يسومون الشعوب سوء العذاب، وقد بدأت الثورة من جبال الجليل، وهناك وفي القصة المشهورة التي وزع فيها المسيح عليه السلام الارغفة الخمسة والسمكتين على عدة آلاف من الناس قال لخمسة آلاف ثائر كانوا يتحضرون ويتجهزون للهجوم على القدس ذلك القول «من صفعك...» وقد قال لهم ايضا اشياء كثيرة أخرى دفعت بعضهم الى القاء السلاح الفولاذي والبدء بامتشاق سلاح المحبة والتسامح.

والمناسبة الثانية لمحاربة نبي الله عيسى عليه السلام للعنف كانت في موقفه من بطرس في احدى حدائق القدس، ويومها اتى خدم رئيس الكهنة للقبض على المسيح فاستل بطرس سيفه كما يخبرنا متى، وضرب به خادم رئيس الكهنة، فقطع اذنه فانتهره رسول المحبة عيسى عليه السلام قائلا: ضع السيف جانبا فإن كل من يأخذ السيف يهلك بالسيف.

وقد دخل عيسى عليه السلام القدس على حمار بسيط، وكان بإمكانه ان يدخلها على جواد مطهم وخلفه خمسة آلاف مقاتل لكنه فضل ان يقول رمزا انه آت برسالة السلام والتسامح وليس برسالة الحرب والعنف، ولاحقا سوف يكرر الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب ذات الموقف من القدس للتأكيد على رسالة التسامح والسلام حين دخل زهرة المدائن التي تأتي مشاكلها دوما من الصهاينة، ففي ايام المسيح حولوا المعابد الى اوكار للصوص والسماسرة والصرافين وملأوا شوارع المدينة بالجشع والنميمة والفساد وفي هذه الايام يكررون ذات الافعال، ويبالغون بالبطش والعنف ولكن بأيديهم وباسلحة واشنطن وليس بجنود روما وولاتها.

ومع نهاية حقبة المسيح، وصلبه أو ـ رفعه حسب الاعتقاد الاسلامي ـ لم تتوقف جنايات الصهاينة ضده وضد تاريخه وتعاليمه، فالذين عجزوا عن مواجهته بالحجة والمنطق والحوار في حياته سوف يشوهون تعاليمه ويدسون فيها الكثير من مواقف ومأثورات حاخاماتهم، ففي اللاهوت المسيحي كما في الابحاث الاسلامية الكثير من «الاسرائيليات» التي نقلت الحرب من الساحات والخنادق والشوارع الى ميادين الفكر والمعرفة، وحاولت تفسير اقواله بما يلائم مصالحها واهدافها التي كانت غامضة على مدار الفي عام وبدأت تتوضح اكثر فأكثر منذ انشاء الكيان الصهيوني في فلسطين مهد المسيح حيث ناصرته وجليله ومسقط رأسه بيت لحم التي تتحول الى قبلة لانظار الدنيا في مثل هذا اليوم من كل عام.

لقد ولد المسيح بسيطا في المذود ونشأ متسامحا في بلاد الشام ومصر، ونقل في جميع خطواته رسالة التعاطف والتآخي وفي يوم ميلاده المجيد لا بد ان نتذكر ان الكراهية تأكل نفسها وصانعيها، وان خلاص العالم لا يكون إلا بالمزيد من المحبة.