عولمة الجهل

TT

من اولى ملامح الحديث عن الحرب ضد الارهاب هي ما اسميه بعولمة الجهل، وبهذا اعني التبسيط المخل في الحديث عن ظاهرة الارهاب، وتداعياتها، وكذلك الارهابيين ودوافعهم، ومن اين جاؤوا حضاريا.. وسياسيا وجغرافيا. وتجيء حالة التسطيح هذه على حساب ادراك حقيقي لظاهرة الارهاب، وكذلك على حساب أمن العالم بأجمعه، حيث نجدنا نبحث في الظلام وربما في الاماكن الخطأ عن الضربة القادمة وعن مكمن العلة. وقضية عولمة الجهل والتسطيح هذه، ليست حكرا على العرب وحدهم ولكنها ظاهرة واضحة في الحديث الأمريكي المسموع والمقروء والمرئي. والواقف مثلي بين حضارتين يتمزق لمشاهدة هذه الظاهرة الممثلة في «حوار الطرشان» لا حوار الحضارات.

لم يكن بي او عليّ، ولكن بعد عناء القراءة، قلبت في التلفاز واستوقفني حديث، بل هو حلقة نقاش على شبكة الشؤون العامة في الكيبل، بين مذيعي الاذاعات الأمريكية، او عينة منهم للحديث عن ظاهرة الارهاب. استضافت هذه الحلقة مجلة Talk (الحديث). وبعد ان قدم مدير الحلقة الموجودين، بدأت احدى المذيعات، او صاحبات البرامج الكلامية (Talkshow) بالحديث عن علاقة الوهابية بالارهاب، وموضوع الوهابية هذا شائك حتى للمتخصصين، فما بالك بسيدة ممن لا شغل لهن سوى الحديث ودغدغة مشاعر الجمهور.

استهلت السيدة حديثها عن الوهابية وعرفتها «على انها ديانة يقودها بن لادن وتنتجها كل من السعودية وباكستان في (المدرساس) ـ هكذا قالتها ـ أي المدارس. ويجب على الوهابية ان تتوقف». ثم انهت حديثها بأن «حال المسلمين لن ينصلح الا اذا غيروا دينهم واتبعوا تعاليم المسيحية». لم اصدق ما سمعت، وشدني هذا الحديث وتابعته الى نهايته. فان كانت تلك رؤى سيدة ومذيعة يمينية في احدى محطات الراديو التي يستمع اليها كثيرون، فلا بد وان يكون هناك عقلاء يصوبون اخطاءها. وكنت في انتظار هذا التصويب.

ثم جاء دور مذيع من وسط اليمين ليختلف مع المذيعة الاولى ويقول لها ان «الاسلام هو دين السماحة، ولكن دين بن لادن والوهابية هما المشكلة، ولكن الوهابية لا تقدم الارهاب فهي ايضا تقدم لنا البترول».

هذه بعض نماذج من سطحية الحوار الأمريكي، على الاقل، في ساحات (التوك شو) في اذاعات الراديو المنتشرة. وبالطبع هذا يختلف عن نغمة المقالات المكتوبة، لأن الكلمة المكتوبة تحاول الاقتراب من المعرفة، فهناك في أمريكا الكتابة الصحافية، وكذلك كتابة الرأي، التي ربما تكون اكثر علما، أيا كان توجه صاحبها السياسي، وكذلك هناك التحليلات السياسية التي تتحرى الدقة وبها كثير من العلم. ثم تأتي بعد ذلك كتابات الدوريات الشهرية والفصلية التي هي اكثر عمقا وتكتب بواسطة الخبراء، ولكن سير تلك الدوريات وتوزيعها لا يصل الى عامة الناس. وبذلك ينحصر الحوار الشعبي الأمريكي بين خطاب أهل الكهف هنا وهناك.

ولكن ربما يكون للأمريكيين تبريرهم لحالة الخلل العقلي التي اصابت المجتمع. فاصطدام الطائرات بعصب المخ المالي الأمريكي، احدث ما يشبه حالة الارتجاج بالرأس وكذلك التخبط، وبذلك علت الصيحات وتعددت اشارات الاتهام للجميع، فمن لم يصدِّر الارهاب فهو يؤوي الارهاب دونما تفرقة او عزل او فصل.

المهم هنا، هو لماذا يسود هذا الحديث السخيف والمسطح في المجتمع الأمريكي بعد مرور مائة يوم على الحدث؟ ولماذا تكون صورة العرب والمسلمين بهذا الشكل دونما مناقضة او محاسبة.

يسود الحديث المسطح لأن الحدث جلل، ولأن عدد الموتى كان غير مسبوق في التاريخ الأمريكي. ولكن هل هذا يبرر الجهل بالمجتمعات الاخرى وحضاراتها؟ هل هذا يعطي الجميع رخصة في توجيه الاتهامات دونما تريث؟ بالطبع لا.

غير ان حالة عولمة الجهل هذه ليست احادية الاتجاه، لذلك تكون صورة العرب ومجتمعاتهم في العقلية الأمريكية بالصورة التي هي عليها. فكثير، مما يكتبه العرب، في التعامل مع حالة أهل الكهوف في تورا بورا وفي قندهار، يؤكد صورة لا عقلانية للعرب، وكذلك لتناولهم للأمور. وحديث شريط بن لادن الاخير خير مثال لهذا الهوس او سمه ان شئت الجنون. فهذا هو أسامة بن لادن وصحبه (سليمان بو غيث وكذلك خالد الحرميل) يعترفون ويتبادلون التبريكات والتهاني لما حدث لأمريكا. اذ يقول أسامة بن لادن: «وكنت اكثرهم تفاؤلا». ثم جاء فيض الكتابات العربية ليقول ان شريط بن لادن الاخير لم يكن الا خدعة أمريكية، وانه من صنع هوليود، الى آخر هذه القائمة من الاسانيد التي لا تسند حتى صاحبها على الوقوف في مكانه.

والفرق بين الجهل الأمريكي وحالة النكران العربي هو ان الجهل الأمريكي يمكن محاصرته في بعض الاذاعات، وكذلك يمكن مواجهته، ايضا، من خلال منافذ ونوافذ عديدة في مجتمع مفتوح، اما حالة الجهل العربية فهي حالة لا تقبل الا الاجماع. فلا تفريط ولا تهاون مع أي كاتب او معلق راشد يقول لهم ان ما في الشريط البلادني ـ مثلا ـ هو الحقيقة، في العالم العربي ـ ان لم يقتل هؤلاء ـ كما كانت حالة الأستاذ فرج فودة ـ تكمم افواههم او تضيع تحت انقاض ضجيج الاجماع «المفبرك».

دونما اشادة بالحالة العربية او الحالة الأمريكية، اضع امام حضراتكم فرضية عولمة الجهل للمناقشة وسبل التعامل معها ومع تبعاتها وتداعياتها.

اول ملامح عولمة الجهل هو هذه ان يكون المتلقي غير متنبه لما يحيق به من مؤامرات. فهو يصدق كل ما يقال دونما مرجعية للنقد. وثانيها هو ان يكون الصحافي مناضلا. فبدلا من ان ينقل الاحداث الى الجمهور نجده ينقل لهم ما يجب القيام به تجاه هذا الحدث، حتى لو تطلب ذلك تشويه الخبر المنقول لارضاء هذا الجمهور. فهذه مراسلة مصرية قالت لجمهورها وقبل نهاية التحقيق في حادث طائرة مصر للطيران وبلهجة قاهرية (طبعا الأمريكان فجروها بصاروخ)، وهذا مذيع في فضائية معروفة ينقل، وبشكل يومي، من واشنطن تعليقاته على سياسة أمريكا من منظوره الخاص ـ دونما حياء ـ حيث يشوه عن قصد سياسة الولايات المتحدة ارضاء لعشرة من جنرالات المقاهي.

التشويه الأمريكي لصورة العرب في الاعلام الأمريكي كبير، ولكن التشويه العربي لأمريكا اكبر. وبغض النظر عن حالة التشويه هذه، فان تبعات هذه السلوكيات والتسامح معها من قبل المنظومتين الحضاريتين (الغرب والعرب) سيؤدي الى كارثة محتملة. ربما لا تحتاج أمريكا الى ارضاء العرب، رغم انها تتحرك في اتجاه ارضائهم، ولكن العرب، بالقطع، يحتاجون، ومن منطلق مصالحهم، ان تكون صورتهم افضل مما هي عليه في المجتمع الأمريكي. اذن أولى خطوات الحرب ضد الارهاب، هي ان نقف جميعا ضد هذه التشويهات، ان نتكاتف معا ضد عولمة الجهل.