حديث واشنطن عن السلام في الشرق الأوسط يكاد يحتجب خلف الدعوات لمقاومة الإرهاب

TT

الرئيس الأميركي بوش ـ الأب، هو من وعد بـ «نظام عالمي جديد» بعد حرب الخليج، أما الرئيس بوش ـ الابن، فإنه لم يعد بأكثر من أن «العالم لن يبقى كما كان بعد الحادي عشر من سبتمبر». فأي عالم آخر، ترى، ينتظرنا بعد هذا العام الثاني من القرن الحادي والعشرين؟، لقد نقلت حرب أفغانستان اهتمام العالم إلى أواسط آسيا، حيث راحت الأصولية السياسية ـ الدينية الإسلامية، تولّد نوعاً من الإرهاب أدى إلى إعلان حرب عالمية عليه، تقودها الولايات المتحدة وتشارك فيها أوروبا وروسيا، وحيث احتياطي النفط والغاز بات يشكل إغراء للدول الكبرى، قابلا للتحول إلى حرب باردة اقتصادية بينها أو إلى نهضة اقتصادية لشعوب تلك المنطقة، تقضي على التطرف السياسي والديني فيها. أما مفترق الطرق، إلى الحرب الباردة أو الاستقرار السياسي، فمرهون بالستراتيجية الأميركية الجديدة، التي قد تعطي الأولوية للدفاع عن سلامة الأميركيين أو للسلام والاستقرار في العالم. والخياران مختلفان وانعكاسات كل منهما على العالم، ولا سيما على العالمين العربي والإسلامي، مختلفة، إذ ان الخيار الأول يقود، حتما، إلى أزمات وحروب جديدة، بينما يقود الخيار الثاني إلى مساعدة شعوب ودول عديدة في العالم الثالث، بما فيها الدول العربية والإسلامية، على تجاوز أزماتها الراهنة والتغلب على عناصر وعوامل التطرف والعنف التي تهدد الاستقرار فيها أكثر مما تهدد أعداءها.

لسوء الحظ، أو ربما لحسنه، لا يبدو الخيار الأميركي واضحا كل الوضوح. فالحديث في واشنطن عن السلام في الشرق الأوسط وعن الديمقراطية والرخاء في العالم يكاد يحتجب وراء الحديث عن مقاومة الإرهاب وبناء جهاز دفاع صاروخي لحماية الشعب الأميركي من احتمال توجيه ضربات ارهابية نووية أو جرثومية إليه؟ ووزير الخارجية الأميركي، باول، المنفتح على مشاكل العالم الثالث وقضاياه العادلة، يكاد يتوارى وراء وزير الدفاع رامسفيلد ومواقفه المتصلبة. أما الرئيس الأميركي الذي أعلن اقتناع بلاده بقيام دولة فلسطينية، لم يتمكن من لجم ارييل شارون الذي يفعل كل شيء للحؤول دون قيام هذه الدولة بل ليحرض الولايات المتحدة على الفلسطينيين والعرب والمسلمين. وهل ترى، هناك، حالة واحدة في التاريخ كمثل الحالة الراهنة، في الأراضي المقدسة، حيث اصبح المعتدي الغاصب المحتل، يسمي نفسه ضحية، وحيث يسمى الشعب الضحية إرهابيا؟! لقد نجح شارون في حشر السلطة الفلسطينية في الزاوية الصعبة التي تتخبط فيها، الآن، وفي اقناع واشنطن والرأي العام العالمي بأن عرفات هو الذي «فوّت فرصة السلام»، كما نجح في ارغام السلطة الفلسطينية على تطبيق أوامر وقف إطلاق النار بالقوة، وحمل قوى المقاومة الفلسطينية على الاختيار بين وقف الانتفاضة والعمليات الانتحارية، وبين الحرب الأهلية. ولكن ماذا بعد هذه المناورة البارعة؟، هل صحيح أنه «يبحث عن بديل لعرفات»؟، أي إلى «تعيين» زعيم على الفلسطينيين يتولى مهمة توقيع اتفاقية سلام بشروط إسرائيلية؟، وذلك بالرغم من أن كل العواصم الكبرى، بما فيها واشنطن، أعلنت وكررت إعلانها بأن عرفات هو الرئيس الشرعي المنتخب للفلسطينيين، وأنه الوحيد القادر على توقيع اتفاق سلام باسمهم؟، كل شيء وارد مع ارييل شارون، ومن له كل هذا التاريخ من العنف والاجرام لا يستغرب تطلعه إلى الحلول المستحيلة.

ويبقى السؤال المر والأليم عن هذا العجز أو التقصير العربي والإسلامي بالنسبة للشعب الفلسطيني ولانتفاضته، وللقضية الفلسطينية، عامة، هل هو تقصير وتقاعس، كما لا يكف البعض عن القول والترديد؟ ام أن هذا الذي تقرر (ولا نقول نفذ بكامله) في مؤتمرات القمة ومؤتمرات وزراء الخارجية، العرب والمسلمين، هو كل ما تستطيع الدول العربية والإسلامية تقديمه؟، أم أن هناك، كما تدعي بعض الجماعات الراديكالية، هوة تفصل بين الأنظمة الحاكمة وشعوبها؟ مسكينة هي هذه الأنظمة العربية (أو بعضها، على الأقل)، التي يتلاقى الارهابيون والمتطرفون مع بعض وسائل الإعلام الأميركية، رغم الحرب الناشبة بينهما، على انتقادها أو تجريحها أو مطالبتها بالتغيير. صحيح ان الوطنية، بمفهومها المثالي أو النظري تفرض على كل عربي التضامن مع كل عربي آخر، كما أن الأخوة بين المسلمين تفرض على كل مسلم نصرة أخيه المسلم «ظالما كان أم مظلوما»، لكن هل فكر المتطرفون العرب والمسلمون مرتين قبل أن يقدموا على العمليات العنفية في الأمكنة والأوقات غير المناسبة؟ هل ادركوا فداحة الخطأ الذي ارتكبوه والخطر الذي عرضوا شعوبهم ودولهم إليه، عندما اختاروا تصعيد العمليات الإرهابية الانتحارية إلى هذا العلو أو هذا المدى؟

بالرغم من المعارضة التي يلقاها، فإن احتمال مواصلة الولايات المتحدة لحربها العسكرية ضد الإرهاب، ومدها إلى هذا البلد العربي أو ذاك البلد الإسلامي، ما زال واردا، اما حربها المالية والاقتصادية على الدول والهيئات والجمعيات الخيرية والدينية التي قد تغطي، في نظرها، تمويل الجماعات الإرهابية، فمستمرة، ولن يكون من السهل عليها كسبها ولا على الدول المتهمة بذلك، تفاديها. وليس من شأن هذه المعركة، ان تعطل مسيرة العولمة في العالم فحسب، بل ربما قادت إلى أزمات اقتصادية حادة في أكثر من بلد في العالم الثالث.

ان القضية الفلسطينية تمر بمرحلة جد صعبة، كما ان الرئيس عرفات يجد نفسه، مرة أخرى، محشوراً في زاوية ضيقة، فهل سيتمكن، كما نجح في المرات السابقة، من الخروج من الزاوية، من استعادة المبادرة؟ من فتح اذان واشنطن على حقوق الشعب الفلسطيني؟ أم أن شارون سوف ينجح في إغلاق عيني واشنطن عما ترتكبه يداه في الأراضي المقدسة؟، كثيرون، في وسائل الإعلام الغربية، هم الذين «ودعوا» السلطة الفلسطينية والزعيم الفلسطيني، وأكثر منهم في إسرائيل هم الذين يصفقون اليوم لشارون، لكن كثيرين هم الذين يعتقدون مثلنا أن عرفات باق على رأس السلطة الفلسطينية ليشهد رحيل شارون عن رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وان الدولة الفلسطينية ستقوم قبل نهاية عام 2002، وان نسيم السلام سوف يطرد رياح الإرهاب من سماء الشرق الأوسط.