إمبراطورية تملك كل شيء... إلا

TT

اليكم هذه الاسرار التي لا يعرفها احد في العالم: الامم المتحدة؟ ملكية اميركية. البنك الدولي؟ «ملاكي» اميركية، على رأي المصريين. منظمة الصحة العالمية؟ برضو. منظمة الصحة العالمية؟ اجل. الحلف الاطلسي؟ كبّر عقلك! تمعن جيداً في صورة هذه الكرة الارضية وهي مسطحة ونقّل عينيك حيث شئت من الرؤى، تجد ان الولايات المتحدة تصرف على السلاح نحو 40% من مجموع ما يصرفه العالم. كل العالم، مروراً بالصين وروسيا والهند وفرنسا والمانيا واليابان وكل ما يخطر لك من دول كبرى او صغرى او بين بين. ومنذ الحرب التي بدأت في افغانستان الى اليوم، انقسم العمل العسكري بين بريطانيا واميركا على هذا الشكل الحسابي الشديد الوضوح: 2% لبريطانيا العظمى و98% للولايات المتحدة الاميركية.

لم يحدث، في اي مرحلة امبريالية في التاريخ، ان اتسعت امبراطورية الى هذا الحد او اثرت الى هذه الدرجة. فالقوة الاقتصادية في العالم منقسمة الى قسمين: الاقتصاد الاميركي والآخرين، بمن فيهم 15 دولة اوروبية. كل عملة في الارض ترتفع او تنخفض، قياساً بالدولار. كل بورصة في الارض محكومة بذبذبات بورصة نيويورك. كل معدن ثمين يأتي سعره من اميركا. واميركا هي التي تقرر اسواقها، او مواسمها، او مزارعها، اسعار القمح والبرتقال والنفط. حول العالم! متاحفها هي التي رفعت اسعار اللوحات الاوروبية من بضعة آلاف الى عشرات الملايين. وممثلوها هم الذين يتقاضون 30 مليون دولار عن الفيلم الواحد. وكبير اغنيائها هو كبير الاغنياء في العالم وفي التاريخ. ولم يصنع ثروته من احواض السفن او من مصانع الدبابات او من مناجم الماس، بل من رقائق السيلكون.

في اميركا عشرون اهم جامعة في العالم. ومائة ثاني اهم. و2500 جامعة اخرى. وفي كل فرنسا جامعة واحدة لها سمعة الجامعة الرقم عشرين في اميركا. وفي بريطانيا جامعتان، خلفهما كل التاريخ، وامامهما دائماً جامعة هارفارد. وليس في روسيا او الصين او الهند، جامعة موازية واحدة، مع ان الهند اصبحت ثاني دولة منتجة للرقائق في العالم، وثاني دولة منتجة للافلام السينمائية.

اكبر شركة اعلام واكبر شركة سيارات واكبر شركة ادوية واكبر شركة بطاطا، في اميركا. انها حالة لم تعرفها الامبراطورية البريطانية التي كانت تستند في الخلف الى مجموعة صغيرة من الجزر. ولم تعرفها روما الصغيرة الحاكمة على اوروبا والمتوسط. انها حالة لم يعرفها احد، خصوصاً الامبراطورية السوفياتية، التي ضمت بالآيديولوجيا والسياسة والقوة، شطراً كبيراً من جهات الارض، لكنها افتقرت على الدوام الى العنصر الامبراطوري الاهم: المال! فقد غزا السوفيات الفضاء وأخفقوا في انتاج القمح او الذرة. وكدسوا الاسلحة النووية لكنهم في انتاج السيارات لم يذهبوا الى اكثر من تصنيع سيارات فيات واطلقوا عليها اسماً روسياً تماماً كما اطلقت رومانيا على سيارة رينو 12 المركبة عندها، اسم البلاد القديم: داسيا! اخترعت اوروبا الطائرة الاولى والسيارة الاولى والمسرح الاول وجاءت اميركا فجعلت نفسها الاولى في كل حقل. صنع المستر رولز والمستر رايس سيارة فخمة لنبلاء بريطانيا فصنع هنري فورد سيارة بسيطة لعمال اميركا. صنعت فرنسا قمصان الحرير للوجهاء فصنعت اميركا سراويل «الجينز» لعموم عموم سكان الكوكب: من شوارع روما الانيقة الى ادغال الفيلبين. وصنع الفرنسيون نحو 350 صنفاً من الجبنة وطورت اليابان ارقى انواع اللحم البقري ونشرت ايطاليا اطيب انواع السباغيتي بالحبق او الكركند. ثم جاءت اميركا فأرسلت في كل اتجاه طبقاً من اللحم البقري المشكوك والمغمس بأنواع الزيوت والدسم والدهون، وقدمته الى جميع الذين يملكون ولا يملكون مع رائحته.

كيفما تلفت حولك، هناك شيء من اميركا، الرشاش الذي كان يطيب لأسامة بن لادن ان يتصور معه كرمز للحرب على اميركا، كان رشاشاً اميركياً. والبنوك التي تعاملت مع «القاعدة» كانت بنوكا اميركية. وخبراء المتفجرات كانوا في الجيش الاميركي. وقد بدأنا في تعداد اشياء لا حصر لها ولا عد ولا نهاية. فالنظام الانتاجي الاميركي ظاهرة مذهلة وبلا تفسير: بلد هو الاول في الصناعة والاول في الزراعة معا. وهو الاول سياحياً مع ان عمره لا يزيد على 250 عاماً، وليس فيه قطعة اثرية واحدة مما في مصر او فرنسا او حتى لبنان.

اين الخطأ، اذن؟ لماذا تثور اميركا اللاتينية على اميركا، ويحرق علمها في شوارع اوروبا او شوارع فلسطين وتقوم ضدها التظاهرات في هايد بارك وتستقبل وزيرة خارجيتها بالصراخ والطماطم في حرم الجامعات؟ لماذا يأتي اليها المهاجرون من كل انحاء الارض وينتقدها الكثيرون في جميع الارض؟ ماذا فعلت اميركا؟ الم تساعد في الحاق الهزيمة العسكرية بالنازية والفاشية؟ الم تساعد في اعادة بناء اليابان واوروبا؟ هل يعقل ان تكون اميركا غير مرغوبة وان يكون «اكثر شعبيةً» منها رجل لا يرى الحلول الا بخطف الطائرات وتدمير الابراج وتفجير الاماكن العامة؟ اين يكمن الخطأ؟

هناك، بالتأكيد، خطأ ما، وهذا الخطأ ليس من شأنك ولا من شأني، بل على اميركا ان تبحث عنه، ان تبحث عنه في الفيليبين وفي المكسيك وفي اندونيسيا وفي فلسطين. واذ يندفع جورج بوش ودونالد رامسفلد الى محاربة الارهاب، يجب ان يرأس بوش في المقابل فريقاً آخر، يعود الى الوراء. يستعرض اربعة عقود من السياسات الخارجية الاميركية. يستعرض مكامن الخطأ والضعف وصناعة الديكتاتوريات ثم الخروج لتدميرها، لقد كانت مشكلة اميركا اولا واخيراً، الانتماء الى الانظمة وقضاياها وليس الى الناس وقضاياهم. وقد رأت مصالحها الاستراتيجية والحيوية في المدى القصير والافق المؤقت. واخضعت ديمقراطيتها في الداخل لديكتاتورية جماعات الضغط وثقافة التجار والسماسرة. ولذلك نسيت الناس كل ما حققته اميركا من تطور ونمو وانجازات وتوقفت عند سياساتها الازدرائية، من فيتنام الى فلسطين. وحتى عندما وقفت واشنطن بكل قواها الى جانب كوسوفو في وجه الصرب او عندما عملت على جرّ سلوبودان ميلوسيفتش الى زنزانة لاهاي، لم تنتبه اكثرية الناس الى ذلك، بسبب حجم الخطأ.