ثوابت تركيا المتناقضة في صياغة الموقف من الصراع بين الولايات المتحدة والعراق

TT

تلعب الثوابت في العلاقات الدولية دوراً مهماً في صياغة سياسات الأمم والدول، فللإحاطة بسياسة ثابتة أو مستجدة لدولة ما، إزاء دولة أخرى، أو مجموعة من الدول، لا مندوحة من مراجعة للثوابت في هذه العلاقات، وهي، أي الثوابت، ليست بالعامل الوحيد في صياغة السياسات الدولية، إنما هناك عوامل أخرى كذلك، تحتفظ الثوابت دوماً بأهميتها بينها.

والثوابت، في موقف دولة ما، غالباً ما تكون لها جذور موغلة في العقود أو القرون من السنين وتبقى تأثيراتها أقوى من التأثيرات التي تتحكم بها العقائد والأديان والانتماء القومي أو العرقي. ولنأخذ الثوابت كأنموذج في سياسة الدولة التركية تجاه الصراع العراقي/ الأمريكي، والثوابت في السياسة العراقية حيال تركيا.

إن إلقاء نظرة على العلاقات التركية ـ العراقية، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتأسيس الدولة العراقية في عام 1921، يرينا متانة هذه العلاقات التي لم يؤثر فيها توالي حكومات ذات ميول واتجاهات غربية أو شرقية، ملكية أو جمهورية، على الحكم في العراق بالأخص. ولقد ساهمت أمور عدة في ثبات هذه العلاقات في مقدمتها المذهب السني لكلتا الدولتين، واعتماد سلطات الاحتلال البريطانية للعراق، بعد الحرب العالمية الأولى، على الإدارة المدنية السنية التي خلفتها الإمبراطورية العثمانية بعد تلك الحرب، لتسيير أمور العراق، وفيما بعد اعتراف بريطانيا باستقلال العراق من خلال التعامل مع الإدارة نفسها. فدخول العراق مع تركيا في سلسلة من الأحلاف والمعاهدات والاتفاقيات، نشير على سبيل المثال لا الحصر، إلى حلف بغداد في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، والاتفاقية التي أبرمت بينهما لمطاردة الثوار الكرد على جانبي حدود البلدين، علما بأن النصف الأول من القرن الماضي كان شهد بدوره عدداً من المعاهدات والاتفاقيات بينهما، والملاحظ في المعاهدات والاتفاقيات التركية أنها لم تتوج خصومات بينهما، بل انها كانت ذات محتوى تضامني. ليس هذا فحسب بل ان الدولتين كادتا تدخلان في علاقة قرابة ومصاهرة سياسية، إن جاز القول، عندما تقرر تزويج الملك فيصل الثاني من فتاة تركية قبل سقوط الملكية في العراق بشهور عام 1958، وثمة أمثلة عديدة ساهمت في بناء الثوابت في العلاقات العراقية ـ التركية، أو بالأحرى تدل على متانة تلك الثوابت، منها أن العراق كان ولا يزال يضطهد العراقيين من التبعية الإيرانية، ويقوم بترحيلهم إلى إيران أو يعتقلهم ويودعهم مصيراً مجهولاً، في حين يغض الطرف عن العراقيين من التبعية العثمانية، ليس هذا فقط بل انه اتخذ من التبعية العثمانية مقياساً للانتماء الوطني العراقي في مجال الجنسية والأحوال المدنية.

وفي الوقت الذي يبدو فيه تاريخ العلاقات بين العراق وبين الدول العربية حافلاً بالخصومات، باستثناء الأردن، فإن العلاقات العراقية ـ التركية لم تتعرض قط إلى هزات تذكر، حتى في أوج التوجه العراقي نحو الاتحاد السوفيتي السابق، الخصم التقليدي للغرب وحلفائه.

مما تقدم، وأمثلة أخرى سنتطرق إليها في السياق، مثل العداء العراقي ـ التركي المشترك للقضية الكردية، نجد أن العراق فضل ويفضل تركيا على الأقطار العربية كافة. ولم يأت مدّ أنبوب للنفط عبر الأراضي التركية إلى البحر المتوسط، ورفده الاقتصاد التركي بأهم أسباب الثبات، اعتباطاً. وبهذا الصدد أذكر ذماً، تحت ستار المدح، مارسته صحيفة (طريق الشعب) الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي في منتصف السبعينات من القرن الماضي، بحق حكومة بغداد، حين أوردت في صدر صفحتها الأولى خبراً نشرته صحيفة تركية مفاده، ان المرافق الاقتصادية الحيوية في تركيا من معامل ومصانع وغيرها، تعمل بفضل أشكال الدعم والمساعدة العراقية لتركيا، ومع هذا فإن أوساطاً تركية تتبنى مواقف معادية للعراق.. إلخ.

وهكذا فإن الثوابت في العلاقات التركية ـ العراقية، التي قامت أصلاً، على علاقات غير متكافئة، مقابل الثوابت في العلاقات التركية ـ الأمريكية، والتي تتميز بالقوة والتكافؤ، إلى حد ما، بحيث نستطيع أن نقول معها إنها تتقدم على العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية باستثناء الأمريكية ـ البريطانية، لا يجعل تأرجح تركيا بين (الثوابتين) غريباً، ويتجلى ذلك مع ظهور أية أزمة بين العراق والولايات المتحدة، تقلق تركيا وتبدو في البدء وقد ضعت عيناً على أمريكا وعيناً على العراق، إلا أن التردد التركي، وفي أكثر من امتحان، وفي نهاية المطاف، حسم لصالح الثوابت في علاقات تركيا مع الولايات المتحدة، ويكمن سر التضحية التركية بالثوابت في علاقاتها مع العراق، إلى كون العلاقات مع الأخير تميزت على طول الخط بعدم التكافؤ ولصالح تركيا لا العراق، والأمثلة على هذا كثيرة، سيما في اتفاقية عام 1983، بين الدولتين، بشأن مطاردة الثوار الكرد على جانبي الحدود بينهما، والدخول إلى أراضي بعضهما بعضاً، فكما نعلم أن الكرد، المناوئين للحكومة العراقية، لم يتخذوا من الأراضي التركية قواعد لهم للانطلاق ضد الحكومة العراقية لكي يلجأ العراق إلى توقيع هكذا اتفاقية. كما لم يحدث، ان انسحبوا إلى داخل الأراضي التركية امام هجمات القوات العراقية، على العكس من حزب العمال الكردستاني التركي الذي يتخذ من اراضي كردستان العراق قواعد له ضد تركيا. ثم ان العراق لم يضطر، في أي يوم من الأيام، إلى ملاحقة الثوار الكرد داخل اراضي جيرانه لا الأتراك فقط، إنما جيرانه السوريين والإيرانيين كذلك. لذا فإن تركيا، ومنذ عام 1983، وحدها التي تجتاح كردستان العراق بجيوشها بين حين وآخر. وقبل هذا في عام 1962، قصفت مقاتلة عراقية الأراضي التركية عن طريق الخطأ، إلا أن تركيا لم تعالج المسألة من زاوية التعامل مع الخطأ والتصرف غير المتعمد، والذي يتخذ طابع الاحتجاج أو النقد أو الإنذار وما شابه، بل قامت المقاتلات التركية بمطاردة المقاتلة العراقية إلى أن أسقطتها داخل الأراضي العراقية وقتل طاقمها بالقرب من بلدة شقلاوة شمال مدينة اربيل. وعلى صعيد السياسة التركية المناوئة للعرب، ولسوريا بالأخص، فإن العراق تجاهل هذه المناوأة، وأثبتت خطواته العملية أنه متطابق في سياساته مع تركيا وليس سوريا وبقية العرب.

لقد تميزت ردود فعل العراق تجاه خصومه في الداخل وتجاه البلدان العربية وإيران وغيرها، بالسرعة والانفعال، في حين تميزت بالصمت المطبق والبرود حيال الأتراك. وقد ينبري البعض معترضاً، من أن العراق يعامل الأتراك بالمثل من خلال إيوائه لمقاتلين من حزب العمال الكردستاني، وفتح معسكر ضخم لهم في بلدة مخمور الكردية جنوب اربيل، والحال ان مهمة هؤلاء المقاتلين هي التحرش بالإدارتين الكرديتين في منطقة الحظر الجوي بكردستان العراق، لهذا السبب لم يعترض الأتراك على هذا الإجراء العراقي، مثلما اعترضوا على سوريا وإيران، لأن انطلاق مقاتلي الحزب المذكور منهما كان يستهدف المعسكرات والبلدات التركية جنوب الأناضول.

وهكذا، ومثلما انتصرت الثوابت في العلاقات التركية ـ الأمريكية على الثوابت في العلاقات التركية ـ العراقية في حرب الخليج الثانية بتخصيص قاعدة «انجرليك» التركية للمقاتلات الأمريكية ـ البريطانية لضرب القواعد العسكرية العراقية، فلقد انتصرت تلك الثوابت هذه الأيام كذلك، حين أظهرت تركيا ميلا غير مباشر، إلى ما يتردد بشأن توجيه ضربة أمريكية إلى العراق.

وفي جميع الأحوال لما كانت لكل ظاهرة بداية ونهاية فلا بد أن تتفتت الثوابت التي تحكمت في العلاقات التركية ـ العراقية على مدى نحو قرن، يوماً ما، إلا أن ذلك يبدو بعيد الحصول في المستقبل المنظور، خصوصاً إذا بقي العراق خاضعاً لنظام الطائفة السنية الحاكمة وبقي على وحدته الهشة.

* صحفي وكاتب سياسي (كردستان العراق)