حظائر وإعلام فاجر!

TT

قد يبدو للبعض انني مصاب بعقدة نفسية عميقة ومزمنة من التعابير والمصطلحات السياسية ومن الخطاب السياسي العربي. وهذا صحيح. ومع انه من الضروري ان اكون قد اعتدت على ذلك بعد كل هذه السنين، فإنني ما أزال اصاب بارتفاع مرضي في الحرارة كلما سمعت (او قرأت) عربياً بارزاً يستخدم، في اسناد رأيه ودعم مواقفه، كرامات الآخرين وسِيرَهم وتاريخهم وكل ما طالت يداه. ويوم الخميس الماضي استمعت الى ناطق باسم حركة المقاومة الاسلامية يقول ان «حماس» لن توقف العمليات الاستشهادية. عظيم. السبب: لا تريد الانصياع لسلطة تنفذ اوامر اميركا ورغبات الكيان الصهيوني. واسارع الى القول ان النقل ليس حرفياً لكنه قريب جداً من النص.

كان هذا الكلام بعد ظهر الخميس. وظهر اليوم التالي، قطعت الاذاعة نفسها اخبارها لكي تعلن ان بياناً رسمياً قد صدر يعلن وقف العمليات ضد اسرائيل حتى اشعار آخر: هل كانت «حماس» اذن، بعد 24 ساعة، تنفذ اوامر اميركا ورغبات الكيان الصهيوني؟ طبعاً لا. كانت «حماس»، تنخرط سريعاً في المسعى الكبير للحيلولة دون انفجار الحرب الاهلية، التي تحاول اصابع كثيرة وجهات كثيرة، بسطها في فلسطين، الا انني عندما سمعت بيان «حماس» تذكرت فوراً كلام احد قياديها الذي كان بالامس يرمي السلطة الوطنية بتهم لا تليق بها ولا تليق به ولا تليق بأحد.

لقد اعتدنا، او عُوَّدنا، ان نرمي الكلام على اساس ان مفعوله لا يتعدى النطق به. والرئيس الفلسطيني كان، في مرحلة من المراحل، يستخدم هذه التعابير ليرمي بها خصومه السياسيين: من الاردن الى مصر الى لبنان. واقرب حلفائه الآن، مصر والاردن، كلما دخل العرب في مأساة مثل هذه المأساة تطغى لغة الاعصاب الزائلة على لغة المنطق. ونعتقد، باكثريتنا، ان منتهى الثورة والوطنية هو في رشق الآخر بالاهانات والتهم والتخوين والتحقير والاساءة. وايضاً خلال الايام الماضية كنت اصغي الى مقابلة بدأتها من نصفها فلم اعرف اسم المتحدث الا في النهاية. ولا ادري لماذا قررت ان اكمل تعذيب النفس وان استمع الى النهاية، لكنني فعلت. كان الرجل يقول ان هناك 250 مليون عربي في امة نائمة. وقال ان «الاعلام الفاجر» هو الذي يزين للناس ان حكامهم جيَّدون، وتحدث كذلك عن سكان «حظائر سايكس ـ بيكو» اي مواطني نصف العالم العربي الذين قسمت بلدانهم المعاهدة المعروفة، ويؤسفني انني منهم. ويجعلني كلام الرجل ثوراً او تيساً يعيش في حظيرة من حظائر المستر سايكس والمسيو بيكو.

صاحب الكلام؟ الشاعر سميح القاسم. لقد اراد ان يحرر هذه الامة من المحيط الى الخليج ببضعة اسطر، فأبت، وفضلت النوم والفجور وسايكس ـ بيكو، اليست هناك تعابير اخرى؟ هل خلت هذه اللغة وخوت حتى لم يعد في إمكان الشعراء العثور على كلمة تليق بالشعر؟ في السبعينات، قال الشاعر الراحل معين بسيسو مهاجماً سميح القاسم انه كان «جاويشاً في الجيش الاسرائيلي». وعندما قرأت النطق الذهبي، شعرت انني اصبحت في حل من قراءة اي جاويش للشعر العربي. وبعد اصغائي الى تعابير الاستاذ القاسم في النثر، اعتقد انني لن اغامر في قراة الشعر. ويصبرني ربي على هذا الحرمان الكبير.