الديمقراطية الفلسطينية بين الفشل العسكري والعجز السياسي

TT

ستمر الايام والسنوات ولن نسمع عن محاكمة او محاسبة للذين قتلوا الناس بالرصاص في الاسبوع الماضي اثناء ثورة المراجل بين الفلسطينيين انفسهم. يقال ذلك بجزم لان الذين قتلوا اخوتهم في السابق لم يحاسبوا بل توصل بعضهم لمراكز قيادية في فصائلهم النضالية، ومع ذلك تجد بين الفلسطينيين من يتساءل ببلاهة عن سبب استهتار العالم بالدماء الفلسطينية عندما يسيلها الرصاص الاسرائيلي، عندما يقتل الاسرائيليون انفسهم ولا يتحاسبون او لا تسقط الحكومة، حينها سنعرف ان نهاية اسرائيل اقتربت، وعندما يقتل الفلسطينيون انفسهم ولا يتحاسبون سيقتل الاسرائيليون المزيد منهم، ولن يُعبرهم عاقل في العالم، ولن يهتم مسؤول بمساعدتهم على نيل دولتهم طالما انهم لا يحترمون حرمة الانسان والمواطن وحياته، حينها سيكون التعامل مع الفلسطيني من باب رفع العتب، او لاسداء خدمة لاسرائيل، او ربما تحقيق مصلحة ذاتية عند هذا البلد العربي او ذاك هذا القول لا يمس بمقدار ذرة حقوق الشعب الفلسطيني القانونية والوطنية والسياسية. لكن الهنود الحمر كانوا طيبين وكانت الارض لهم والمحيطات تحميهم، فمن الذي يفكر اليوم بعد خمسمائة عام في حقوقهم؟ القضية هي الانتماء الانساني والحضاري، فإذا انتمى الفلسطينيون الى العالم المتحضر والاطر الديمقراطية واحترام حقوق الانسان سينالون العطف والتأييد والحقوق والسلام. الامر لا يتعلق برشوة او عقاب وثواب، ولكن باختصار يمكن القول ان سادة العالم الاقوياء في هذا الزمن هم اصحاب حضارة الديمقراطية وحقوق الانسان، واسرائيل تنتمي اليهم في تجميع رباط القوة وقانون الديمقراطية لليهود، وتتهرب من تطبيق بنود حقوق الانسان على الفلسطيني بمساعدة التصرف الفلسطيني ذاته كونه لا يحترم او يطبق أي بند ديمقراطي مطلقاً، ولا يحترم فكرة الديمقراطية اصلاً، ولا يقيم اعتباراً لحياة او حقوق المواطن الفلسطيني، كما نرى دوماً، ناهيك من حياة غير الفلسطيني عندما يموت للاسرائيليين واحد او خمسون من جراء عملية فلسطينية فإنهم يتعاملون مع الضحايا كبشر، يذكرونهم بالاسم وبسيرة حياة وغير ذلك من مظاهر تقدير الانسانية والتفرد الشخصي. وفي كل عام تتذكر اسرائيل قتلاها وتعرف عددهم وتفاصيلهم طبعاً. القتلى في الطرف الفلسطيني يتم التعامل معهم كأرقام تقريبية. كم عدد ضحايا عام النكبة؟ او عدد القتلى برصاص فلسطيني؟ وكم بالضبط مات في لبنان؟ بل ما هو عدد شهداء الانتفاضة الاولى بالضبط؟ وهل يعرف أي مسؤول او مؤسسة فلسطينية تعداد العرب الذين ماتوا في سبيل فلسطين؟ كل الارقام المشابهة والخاصة بالاسرائيليين معروفة ومؤرخة لديهم لقد تطور العالم حضارياً وعلمياً وانسانياً، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ونكبة فلسطين، بسرعة مطردة يمكن تلمس نتائجها بنسب مختلفة بين القارات والشعوب. كل دول العالم (كمثال بسيط) تغير قادتها في ثلث القرن الاخير ما عدا الثورتين الكوبية والفلسطينية، علماً بأن سمة الثورة هي التغيير، كما ان كوبا حققت نجاحات سيادية استقلالية وصموداً ضد الحصار وانجازات في الصحة والتعليم تفوق اوضاع الكثير من الدول الديمقراطية والغنية. لكن الثورة الفلسطينية محتفظة بقادتها وبمجالسها من دون تغيير الا لسد فراغات الموت. حتى المجلس التشريعي، الذي انتخب فعلاً من الشعب كحدث فريد لاربع سنوات، تجاهل انتهاء صلاحيته وما زال اعضاؤه جالسين على الكراسي من دون عمل او تشريع او نقد او انجاز او استقالة، اللهم قبض الرواتب والمماحكة حول المخصصات والسفريات والبدلات. لو كان هذا الوضع التعس قد انجز تحريراً لشبرين من فلسطين، او رفع نسبة التعليم وخفض الامية او عزز الحقوق القانونية للفلسطينيين، او غير ذلك من الايجابيات، لامكن حينها ابتلاع التردي في الوضع الديمقراطي مؤقتاً وسكوت الناس عنه، لكن استمرار الحال من سيئ لاسوأ في كل يوم يشير الى جهالة قيادية في عالم الديمقراطية والحضارة والادارة السائدة بين الاقوياء والاغنياء في العالم، ويشير لعدم المام وبالتالي فقدان الاهتمام من الشعب الفلسطيني بأهمية الشأن الديمقراطي او معرفة علاقة الديمقراطية بهدف التحرير ونيل الحقوق المغتصبة الشعب الفلسطيني محروم من الديمقراطية، وبالتالي وكنتيجة لذلك فهو محروم من القيادة المتجددة والمؤسسات المؤهلة لاعداد برامج وخطط مؤقته او متوسطة المدى، ناهيك من الخطط الاستراتيجبة، وابتلي الشعب على الدوام بسلطة ومعارضة لا تفهمان من التعامل المشترك سوى التحارب والتقاتل الذاتي والدوس بالاقدام على المصلحة الوطنية العامة. حياة الانسان الفلسطيني ومصلحته يحدث الاهتمام بهماعندما تهددهما اسرائيل اذ يبدأ الصراخ بالمليان لفترة قصيرة ضد الاحتلال، ولكن اضطهاد الفلسطيني وسجنه في بلاده وموته برصاص اخوته لا يعني شيئا، كما نرى ونسمع الان ربما للمرة العشرة الاف او حتى للمرة نصف المليون، فمن يعرف عدد الضحايا وتفاصيلهم؟

قبيل وبعد اتفاقيات اوسلو قيل للقيادة الفلسطينية ان تعمل حساباً لاحتمال فشل هذا الحل السلمي، وعقدت ندوات في الدول العربية لهذا الغرض، وتحدثت المعارضة وغيرها عن حتمية الفشل. ولفترة ساد الظن ان السلطة الفلسطينية والمعارضة ، من الخارج وفي الداخل، تستعد لاحتمالات الفشل وما سيتبعه من محاولات اسرائيلية لاعادة الوضع لما كان عليه قبل الاتفاقيات، وبالتالي حتمية القتال الفلسطيني الاسرائيلي في فلسطين الطبيعية. تعزز هذا الظن عبر ترويج اسرائيل احياناً لقصص تهريب الاسلحة عبر الانفاق الارضية بين قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية، وكثرت الروايات عن معسكرات تدريب للشبيبة في الضفة والقطاع، وغير ذلك مما عزز الظنون بالاستعداد لمرحلة فشل الحل طوال الاسابيع الماضية، وبعد خمسة عشر شهراً من الانتفاضة، اتضح ان بعض الظن اثم; فالرئيس تحت الاقامة الجبرية في رام الله، والشرطة تدمرت مقارها، والمعارضة اغتيل رجالاتها، والطائرات بأنواعها تحلق في الاجواء وتلاحق الناس والاطفال في الشوارع، حتى حضانات الاطفال في كنائس بيت لحم اصيبت وتحطم زجاج الكنائس واصيبت ماكنات حضن الرضع بالرصاص. مع ذلك لم نسمع او نر مقاومة ضد الطائرات او نسفا للدبابات، علماً بأن ذلك يحتاج لاسلحة صغيرة الحجم ، سهلة التهريب ومتوفرة لدى معظم الدول العربية وايضاً في مخازن اسلحة حركات وفصائل المقاومة الفلسطينية في الخارج، مثل صاروخ سام 7 المضاد للطائرات والمحمول على الكتف، او الصواريخ الفردية الفعالة ضد اقوى تدريعات الدبابات والتي استعملت بكثافة في حرب رمضان على الجبهتين السورية والمصرية وكثر استعمالها اثناء غزو لبنان ايضاً. كان الرد الفلسطيني العسكري على عربدة الطائرات والدبابات ينحصر غالباً في عمليات انتحارية واطلاق قذائف هاون بدائية محلية الصنع لم تؤد حتى لحفرة في الارض، وبالطبع لم تقتل أي شيء. الملاحظ ان الطائرات الاسرائيلية النفاثة والعمودية لم تستعمل في طلعاتها المنخفضة البالونات الحرارية التي تجذب الصواريخ اليها بعيداً عن الطائرات، مما يشير لتأكد اسرائيل من خلو الضفة والقطاع من المضادات هكذا كانت المقاومة الفلسطينية المسلحة، ولم تزل كما كانت، مسترجلة في الاقتتال الذاتي والقتال ضد القوات العربية، متكلسة الذهن ، مشلولة عن العمل في الغالب ضد جيش الاحتلال. اذا كانت حركتا حماس والجهاد تقلدان العمليات الانتحارية لحزب الله، بغض النظر هنا عن جدوى او ضرر هذا العمل، فإن السلطة تتخبط سياسياً وعسكرياً اذ تركت الحبل على الغارب لعمليات المعارضة على امل ان تجيرها لاحقاً لدفع المفاوضات الى حل سلمي هو في النهاية غير محدد المعالم. ازمة السلطة جلية هنا، فهي اما عاجزة عن توفير الامن وبالتالي لا تستحق مركز الممثل والقائد والمفاوض، واما انها مقصرة في توفير الامن عمداً لتجيير العنف في المفاوضات، وهذا مخالف لروح ونصوص الاتفاقيات من وجهة النظر الاسرائيلية طبعاً، مع العلم ان السلطة شجبت كل مرة العمليات الانتحارية ضمن هذا المخطط والعجز الفلسطيني نجحت اسرائيل في كسب الجولة سياسياً وعسكرياً واعلامياً، وعادت السلطة عملياً لتنفيذ اوامر اسرائيل وواشنطن بالتفصيل ومن موقع المهزوم وليس من موقع المسالم. الكارثة ان السلطة والمعارضة لم يهتديا الى اسلوب مهادنة وتوافق يحافظ على الناس ويخرج الطرفين من الدوامة ويعيد الكرة الى الملعب الاسرائيلي، ولكنهما سوياً فضلا للان اسهل طرق الدمار بالعودة لما احسنا صنعه دوماً... الاقتتال والزعرنة على بعضهما وتحطيم بواقي الامل واراحة اسرائيل. كل عام وانتم بخير في ظل قادتنا.