فلسطين المعاصرة.. شعب مبدع وقيادة حكيمة

TT

تكاد الملحمة الفلسطينية لإقامة الدولة الفلسطينية فوق أرض فلسطين تبلغ قرنا كاملا. ولنقل بكل تدقيق إنها دخلت في سنتها الخامسة والثمانين منذ إعلان وعد بلفور سنة 1917.

ولا شعب قبل شعب فلسطين امتد كفاحه للتحرر والانعتاق من الاحتلال امتداد كفاح الشعب الفلسطيني الذي استهدف في بدايته التحرر من الانتداب البريطاني ثم تحول الى مناهضة الوجود الإسرائيلي سنة 1948، وإلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي إثر حرب إسرائيل العدوانية سنة 1967.

85 سنة من معارك النضال لم تكن إحداها حاسمة محققة لانتصار الحق الفلسطيني، ولم تكن حروبها سجلا (يومٌ لك ويومٌ عليك)، بل خاضتها إسرائيل وحققت لنفسها في كل منها مكتسبات ترابية مما أشاع مقولة «إسرائيل التي لا تُغلَب».

ولم يكن منتظرا في الحروب التي خاضتها سنة 1948 جيوش نظامية لسبع دول عربية ضد إسرائيل ان تحقق النصر وقد كانت تشكو من توزع الصف، وضعف التسلح، وفساد العتاد الحربي، وخاصة لانها لم تكن مَعنِية مباشرة بتحرير الأرض، إذ كانت حربا عربية بالنيابة عن شعب فلسطين الذي وضعه النظام العربي آنذاك تحت الوصاية. وهو ما ثارت عليه فيما بعد حركة التحرير الفلسطينية عندما نادت باستقلالية القرار الفلسطيني وانتزعته.

ولو ان الجيوش العربية أوكلت الى المقاومة الفلسطينية واجب الدفاع عن حقها المغتصب واكتفت بدعمها ماليا وعسكريا لتغير مسار النضال الفلسطيني ولأعطى ثماره المبكِّرة لأن إسرائيلَ هذه الفترة لم تكن لها مناعة إسرائيلَ اليوم، ولكانت القضية الفلسطينية قد فرضت حلها العادل قبل سنة 1967 التي كانت كارثة على العرب بجميع المقاييس.

أما عندما استرجع الشعب الفلسطيني قرار استقلاله فإن معركته مع الاستعمار الاسرائيلي أخذت ابعادا أخرى تحولت بها حركة الكفاح الى ملحمة بطولات نادرة وغير مسبوقة في تاريخ حركات تحرر الشعوب العالمية.

في جهات أخرى من العالم لم يخض شعب معركة التحرير ضد القوات العسكرية وهو أعزل من كل سلاح، فسواء في الفيتنام أو الجزائر مثلا كانت المعركة بين جيشين يعملان في خندقين ولم يكن سلاح المستضَعف هو الحجارة، أو فتح الصدر لتلقي ضربات المحتل الباغي ببرودة دم، ولم تتحول الارض المحتلة إلى مقبرة جماعية للأطفال والنساء والشيوخ، ولم تتبادل الأُسَرُ التهاني في مواكب العزاء، ولم تفتخر كلُّ ثَكْلى وأيِّم وأرملة بأنها قريبة شهيد، ولم يغتَل فيها المحتلُّ المعتدي رجال المقاومة بالطائرات الفتاكة، ولم تتحرك دباباته وجرافاته للتدمير والتخريب والانتقام الفردي والجماعي.

ألا ما أروع كفاح شعب فلسطين البطل وقد صمد أكثر من سنة في وجه العدوان دون ان نسمع له شكوى أو يلفظ بهمسة ندم! عن هذا الشعب وبهذا المعنى يقول الرئيس عرفات انه شعب الجبارين، أي قاهر الجبارين، وكاسر شوكة الطغاة المعتدين.

لم تتوقف ابداعات الملحمة البطولية الفلسطينية قط، بل تنوعت اشكالها وتعددت مشاهدها، وشدت هذه الابداعات أنظار العالم إليها مُكْبِرةً قدراتها الفكرية والنضالية.

ولا يملك محلل سياسي استراتيجي أن يُصَنِّف هذه الابداعات أو يرتبها حسب نسبة ابداعها، فكلها رائعة وحافلة بالدروس التي تتشكل منها بحق طريقة الابداع النضالي غير المسبوق، سواء نضال الفدائيين في معركة الكرامة سنة 1968 وما تلاها، أو في معركة الصمود في صبرا وشاتيلا لمواجهة مجرم الحرب شارون في أواخر سنة 1982، أو في الانتفاضة الأولى سنة 1987، أو الانتفاضة التي لم تنته بعد وامتدت أزيد من سنة وتنوعت فيها أساليب الكفاح من قذف الحجارة إلى العمليات الاستشهادية، والعمليات العسكرية، وضرب المستوطنات.

وفي جميع هذه المحطات كان القائد واحدا هو ياسر عرفات الذي كان فارس الحلبات الميدانية والسياسي المحنَّك الممسك بزمام المفاوضات، أو الآخذ بعصا التسيار يطوف العالم للتبشير بالقضية الفلسطينية ولَمِّ النصرة والسند لها.

ومن حق هذا الشعب وهذا الرئيس علينا ان نشيد ببطولتهما، وان نكبر حق الاكبار كفاحهما المثالي، وكم يؤلمني ان أرى أقلاماً عربية تتناول بالانتقاد وحتى التشويه مسيرة شعب فلسطين وقائدها الكبير! فلا أسهل من الانتقاد ولا أصعب من ابداع الفن كما يقول الفرنسيون، لأن هؤلاء المنتقدين لا يرون من الأمور إلا ظواهرها، ولا يقدرون حق قدره ما عاناه شعب فلسطين ورئيسه من ضروب المعاناة والآلام، لأنهم لم يعرفوها ولا علموا بمثلها.

وكما قال الشاعر العربي:

لا يعرف الشوق إلا من يُكابِدهُ ولا الصَّبابةَ إلا من يعانيها والنضال الفلسطيني يجتاز اختبارا عسيرا في اعقاب زلزال 11 شتنبر الذي مست تداعياتُه القضية الفلسطينية وكادت تحول مجراها حيث أريد لها أن تكون ضحية المغامرة الإرهابية الشنيعة في خضم الخلط بين مفهوم الإرهاب ومفهوم المقاومة الشرعية والدفاع عن النفس المشروع. لكن القائد الفلسطيني ورفقاءه على درب الكفاح ابدعوا في تجنب الوقوع في فخ شارون عندما دعا عرفات القوات العسكرية المكافحة في فلسطين لإيقاف إطلاق النار الفوري الشامل، لا استسلاماً لإرادة اسرائيل وعنجهية شارون كما فهم البعض، ولكن من موقع القوة في لحظة تاريخية تأكد فيها عجز اسرائيل عن انهاء الانتفاضة الظافرة، بعدما كانت تطمع في اطفاء شعلتها بقوة الحديد والنار.

وحين نضع هذا القرار في سياق الأحداث لا نتمالك عن الاشادة بحكمة الرئيس الفلسطيني وحصافته.

والذين نعتوا أو صنفوا خطاب الرئيس بالاستسلام إنما يملكون ثقافة بدائية، لأنها سطحية فاقدة العمق، ويرتكبون خطأ تقييميا عندما يعتبرون أن ألوية النصر لا تعقد في الصراعات إلا لمن أطلق آخر طلقة مردية للعدو عندما لا يعود يملك في جعبته أي سهم وهو ما لم يَطَّرِد دائما في انهاء الصراعات التي كان المنتصر فيها هو من لم تنفد وسائله، وفضَّل مع ذلك التوقف في وسط الصراع ليضع خصمه على محك الاختبار أحقا جنح للسلم، أم ما يزال خصما عنيدا وعدوا لدودا؟

وكما كان قرار الرئيس حكيما كان قرار المنظمات المسلحة حكيما باستجابتها لنداء الرئيس. إذ بالقرارين التحم الصف الفلسطيني وسد على العدو منافذ الولوج إلى زعزعة الكيان الوطني الفلسطيني التي كان شارون يطمح في لعب ورقتها وهي آخر ما بقيت في يديه من أوراق.

أثق كل الثقة في قدرة الشعب الفلسطيني على تنويع ابداعاته لاحقاق حقه، حربا أو سلما أو هدنة. وحين تتوفر لشعب قدرةُ الإبداع لتوجيه نضاله التوجيه الأمثل، وقيادةٌ حكيمة تلبس لكل حالة لَبوسها تتوفر له بالتالي جميع قدرات النجاح في بلوغ المقاصد وتحقيق الأهداف.