طابور روسيا الأخير.. بعد كارل ماركس

TT

بسبب من اتساع الطبقة الوسطى في موسكو، سرعان ما يلاحظ المرء شيئين وهو يتنقل بسيارته في هذه المدينة التي يتزايد طابعها الأوروبي ـ مطاعم السوشي يابانية الطراز المنتشرة في أرجاء المدينة (حيث يجد المرء الأطعمة من الحساء الروسي الى سندويتشات ماكدونالدز حتى الأطعمة الملفوفة التي تجمع بين كاليفورنيا والكرملين في غضون عقد واحد من الزمن!) والكثير من الناس يمتلكون سيارات الآن، بحيث ان خطوط السير متشابكة دائما (تخيلوا جاكرتا وفيها ثلج وجليد، وعندها يمكنكم رؤية موسكو اليوم). وهكذا، فانني عندما كنت اجلس، وقت الازدحام الخانق، في ساحة بوشكين، كان لدي فائض من الوقت لأتوجه بسؤال عام لصديقي الروسي فكتور: هل حياتك اسهل او اصعب الآن مما كانت عليه في ظل الشيوعية؟

أجابني قائلا: «كلا الأمرين. فهي الآن أسهل لأنه لا يتعين علي البحث عن الطعام كل يوم، والانتظار في الطوابير للحصول على أي شيء. فالمتاجر مليئة الآن، ولم تعد هناك خطوط او طوابير. ولكن ذلك كله يكلف الكثير من المال. والقول المأثور هنا الان هو انه لم يتبق في روسيا سوى طابور واحد، هو طابور المال».

وهكذا فان نظريات كارل ماركس قد انتصرت، اخيرا، في روسيا الحالية: كل شيء يدور حول المال. وهذا هو المبدأ الأساسي لفهم الرئيس فلاديمير بوتين ايضا. انه ليس ميخائيل جورباتشوف اكثر صرامة، او بوريس يلتسن اكثر اتزانا. انه دنغ سياوبنغ روسيا الأول ـ خليفة ماو البراغماتي الذي كان اول من أبلغ الصينيين انه «من الرائع ان يكونوا أغنياء»، ووضع اصلاحات التحديث موضع التنفيذ لتحقيق ذلك.

وقال أبا ايبان ذات يوم، ان الناس والشعوب سيفعلون الشيء الصحيح دائما في نهاية المطاف، بعد ان يستنفدوا كل الامكانيات. وتلك هي رسالة بوتين الأساسية للروس: «لفترة عقد من الزمن جربنا كل فكرة سيئة، من التخلف عن دفع الديون، الى خفض قيمة العملة، حتى العلاج بالصدمة. ولم تبق أمامنا الا فكرة واحدة: اقرار تشريع اصلاح حقيقي لكي نستطيع الحصول على استثمار حقيقي فنبني اقتصادا حديثا حقيقيا. ذلك انه في هذا العالم لا يساوي المرء شيئا بدون اساس اقتصادي حقيقي. ولهذا فاننا سنركز الآن على الطابور الوحيد الذي يعنينا، طابور المال». وهذه هي النزعة البوتينية.

وقد فسر لي ذلك سبب موقف بوتين المتسم بالحلم والاعتدال من قرار الرئيس بوش التخلي عن معاهدة الصواريخ البالستية المضادة، التي تضع حدودا على الدفاعات الصاروخية. ففي عام 1972 عندما صيغت المعاهدة، كانت سياسة روسيا الخارجية تدور حول شيء واحد ـ القضايا الجيوسياسية، المنافسة العالمية التي تستحثها الايديولوجيا من اجل النفوذ مع الولايات المتحدة، وكان كل شيء، وخصوصا الاقتصاد، يخضع لذلك. ومن هنا كانت الطوابير على الطعام. اما اليوم فان سياسة روسيا الخارجية تدور حول شيئين ـ القضايا الجيوسياسية والقضايا الجيواقتصادية ـ وهناك منافسة حقيقية بين الاثنتين. ولهذا فانه اذا كان بوسع روسيا ان توفر المال، وان تحصل على المساعدة الغربية عبر الابتعاد عن معاهدة الصواريخ البالستية المضادة، فانها ستسلك هذا الطريق.

غير انه يتعين علينا ان لا نكون مغفلين. فنخبة روسيا في المجالين العسكري والسياسة الخارجية اعتبروا خطوة بوش في التخلي عن معاهدة الصواريخ البالستية المضادة «لطمة على الوجه» كما قال خبير استطلاع الرأي الروسي ايغور بونين. واذا لم تتصرف الولايات المتحدة الآن بالتوافق مع الوعود التي يعتقد بوتين انها منحت له ـ اتفاقية جديدة لتقليصات كبيرة في الأسلحة النووية، شراكة حقيقية بين روسيا والناتو، تخفيف للديون، عضوية في منظمة التجارة العالمية، واستثمارات غربية ـ فانه سيجري النظر الى بوتين باعتباره مجرد جورباتشوف آخر ـ يعطي دائما ولا يأخذ شيئا. وأضاف بونين «عندئذ يمكن ان تبدأ النخب بتشكيل جبهة ضده».

غير ان بوتين يتجاهل، الآن، مثل هذا الهمس، لأن روسيا، حسب وجهة نظره، لن تكون لاعبا في القضايا الجيوسياسية مرة اخرى، اذا لم تبرع، اولا في في حل القضايا الجيو اقتصادية.

ان ما هو جديد في موسكو الحالية هو ان هناك رأسماليين شبابا بلغوا سن الرشد، وهم يعتقدون بان في وسعهم ان يصبحوا اغنياء على الطريقة الصينية، وليس على الطريقة الروسية القديمة. وبدون اثارة أقر البرلمان الروسي في عام 2001، بهدوء الكثير من التشريعات القضائية وتلك المتعلقة بالاصلاح الضريبي، وهي تشريعات كانت امريكا تضغط باتجاه اقرارها خلال عقد من الزمن.

وفي اليوم التالي تناولت طعام الغداء في احد المطاعم التي تحمل اسم «اوليتا او جي آي»، وهي مطاعم ومعارض فنية في الوقت ذاته، وجزء من سلسلة جديدة ناجحة من المحلات التي بدأ تأسيسها ديمتري جيكوفيتش وشريك له. وقال جيكوفيتش ان «الفرق بيننا وبين الأقلية الحاكمة هو اننا نتوجه نحو خلق شيء جديد، وليس خصخصة شيء موجود سابقا».

ان ثقة جيل روسيا الجديد بقدرته الحقيقية على صنع هذا «الشيء الرأسمالي» تتسم بأهمية جيوسياسية كبيرة. ان احد الاسباب التي جعلت روسيا متعصبة بشأن الحفاظ على الكثير من قوتها النووية، وبالتالي مجابهة الولايات المتحدة، يتمثل في ان تلك القوة النووية كانت العملة الوحيدة التي تظهر انها قوة عظمى. واذا ما اعتقد الروس ان بوسعهم ان يكونوا أقوياء على أساس القضايا الجيواقتصادية، فانهم لن يتنازلوا عن كل اسلحتهم النووية او سعيهم الى النفوذ، غير ان فرص ان يكونوا شركاء حقيقيين مع الغرب ستكون اوسع بكثير.

ولهذا فان على الروس ان يواصلوا مناصرتهم بوتين، وان يأملوا بأن سيدفع طابور روسيا الأخير الى أمام.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»