كل عام وأنتم بخير... رغم الأخطاء القاتلة

TT

«انتفاضة الأقصى» غيّرت معطيات عدة في برنامج العمل السياسي عند الفلسطينيين والعرب، والشيء نفسه يقال عن أحداث 11 سبتمبر (أيلول). وكان المتغيّر الأهم فلسطينيا وعربيا ازاء ما يتعلق بالتطورات على الساحة الفلسطينية هو وقف أي جدل حول شرعية قيادة السلطة الوطنية، لأن هذا بالضبط ما كان يريده آرييل شارون في حربه المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني وقضيته..

لقد صار مشروع الفتنة الاسرائيلي «خطا احمر»...

صار السعي الشاروني العنيد لتفجير «حرب أهلية» فلسطينية على رأس الممنوعات بل والمحرّمات. ذلك ان طبيعة المواجهة مع عدو خطير في فاشيته واجرامه وصلفه وتنكره لأبسط قواعد الانسانية تفرض توافر التماسك الداخلي بقدر ما تفرض المصارحة والتشاور واحترام التفويض والحرص على المشاركة في تحمّل المسؤولية.

وحقا، رغم اختلاف الاجتهادات حيال التبدّلات النوعية التي طرأت على الانتفاضة واسلوب تسييرها، ظل هناك حد أدنى من التنبه لـ«الخط الأحمر». وهذا بالذات ما شجّع جلاوزة الارهاب الاسرائيلي على تحميل السلطة الفلسطينية أمام العالم مسؤولية العمليات الفدائية، مع علمهم الأكيد ان لا علاقة تنظيمية للسلطة او قواها بها. اذ نتج نوع من التحسب الاسرائيلي للنقلات النوعية في تطوّر الانتفاضة...بل ربما كان هناك ـ بالنظر الى زيارة شارون الاستفزازية للحرم القدسي ـ أصلا رغبة في تفجيرها، واتخاذها ذريعة لشن حرب تنسف أي تسوية سياسية تنتهي بدولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة. ذلك ان موقف شارون وحزب الليكود، حتى قبل عهد شارون، كان قاطعا وصريحا ضد البحث في خيار الدولة الفلسطينية.

في مطلق الأحوال، اندلعت «الانتفاضة»، وكان لا بد ان تندلع ضمن معطيات الزمان والمكان ومسلسل التداعيات المتصلة به. ومع ان كثيرين تحفظوا عن الاتجاه الذي اخذت تنحو نحوه من استخدام السلاح الآلي والهواوين، وان كثيرين رأوا ان قيادة السلطة لم تكن بحجم التحدي، وضح للجميع ان الغاية المبيتة للحكم الاسرائيلي اخطر من ان تسمح للفلسطينيين بالتلهّي بالاجتهادات وتسجيل المواقف. فالرأس المطلوبة لم تكن رأس ياسر عرفات او الجماعة المرتبطة به او حركة «فتح»،...بل الهوية الفلسطينية المستقلة المنتظر ترجمة حقها في تقرير المصير بدولة مستقلة قابلة للحياة وفق مقررات الشرعية الدولية. وقد اعلن شارون الحرب بالدرجة الأولى على «الاعتدال» الفلسطيني الراضي بالتفاوض معه...

ولهذا السبب ضرب الجميع صفحا عن اخطاء عديدة، عن تجاوزات مسلكية وسياسية عديدة سبقت الانتفاضة. فكيف يمكن لأي فلسطيني ضرب الجبهة الداخلية الفلسطينية خدمة لأهداف من يعمل علنا على هدم البيت على رؤوس كل من فيه؟

* الخطأ الكبير

* غير ان التغاضي الى ما لا نهاية عن الاخطاء يصبح مشاركة في الخطأ، وخصوصا عند مفاصل غاية في الخطورة والحساسية. وما فعله الرئيس عرفات يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) الجاري باحجامه عن الذهاب الى بيت لحم، مستسلما لقرار المنع الاسرائيلي، خطأ جسيم اعتقد انه قضى على معظم مصداقيته كزعيم يضطلع بدور تاريخي، ويجسّد معه كل مشاعر شعبه، وعلى فرصة ـ قد تكون ـ الأخيرة لانقاذ السلام من براثن العسكريتاريا الاسرائيلية المتطرفة.

طبعا، أقدّر ان الرئيس الفلسطيني تعرّض لضغوط ثقيلة، لعل بعضها من دول عربية، تطالبه بـ«تطرية موقفه» والتراجع عن اصراره على حضور قداس الميلاد في بيت لحم جريا على عادته في السنوات الماضية. فنحن نعلم ان المجتمع الدولي رغم تشدّقه بالحرص على تطبيق قراراته الشرعية في فلسطين لا يتحمس لمواجهة حكام اسرائيل، ومن خلفهم «أمهم الحنون» الولايات المتحدة. وخلف العبارات الدبلوماسية البراقة التي يخرج بها الموفدون الدوليون من مقابلاتهم مع اركان السلطة الفلسطينية تكون مهامهم في اغلب الأحيان ممارسة الضغط على الضحية، وحثّ هذه الضحية على ابداء «الاعتدال» والمرونة وتقديم مزيد من التنازلات، امام آلة عسكرية صماء يديرها خلاصة التطرف العنصري المستكبر والرافض لأي سلام جدي. عليه، لا لوم على الرئيس عرفات ـ من حيث المبدأ ـ اذا ارتأى ان الظرف غير ملائم للذهاب الى بيت لحم، وانه من المفيد تكتيكيا «تسليف» الدبلوماسية الدولية «بادرة اعتدال» حميدة قد تستخدمها بالضغط على شارون و«شريكه» الجنرال بنيامين بن اليعيزر...الزعيم الجديد لحزب العمل.

الا ان عرفات يلام على تصرف، لا يجوز اطلاقا، هو انه عند صدور أمر المنع اعلن على الملأ رفضه الانصياع له. ثم خلال ساعات حرجة انتظرها الفلسطينيون والعالم أجمع بقلق كرّر موقفه الرافض في تعليق صحافي عابر امام صحافي بريطاني استخف خلاله بشارون...متسائلا والبسمة تعلو شفتيه «من هو شارون؟» هنا يلام عرفات. وهنا ارتكب الخطأ الجسيم...

فلو اختار ان يواجه قرار المنع بتنشيط اتصالاته الدبلوماسية ومناشدة العالم ادراك مرامي الحكم الاسرائيلي في مؤتمر صحافي دعي اليه رؤساء الكنائس في القدس وبيت لحم، وسعى عبر المؤتمر، ايضا، الى فضح لب المؤامرة الاسرائيلية الهادفة الى استثارة مزيد من الفتن وقتل الأبرياء، لكان حقق انتصارا متميزا سواء من حيث التوقيت او المضمون.

لكنه اختار الرد بالتحدي... مع انه لم يكن واثقا من مساندة الدبلوماسية العربية والدولية له. وبالتالي وضع نفسه في زاوية لا خروج مشرفا منها الا بالمضي قدما في المواجهة. وطبعا، المواجهة هنا ليست عيبا، بل كان ممكنا السير فيها الى نهايتها.

وشخصيا ازعم ان قرار المنع الاسرائيلي ضايق معظم حكومات العالم، كما افزع تيارا اسرائيليا معتدلا يصمت اليوم اضطرارا تحت حكم التطرّف كي لا يتهم بالخيانة... لكنه في قرارة نفسه يكره آرييل شارون ويمقته ويأنف من فاشيته وتعنته. كذلك أزعم ان الموقف الدولي كان سيكون كليّا مع عرفات في ما لو قرّر التوجه الى بيت لحم سيرا على الأقدام بلا سلاح او حرس، مصحوبا فقط بعدسات كاميرات المراسلين الأجانب ونفر من القساوسة العرب والأجانب.

قد يقول قائل هذا الكلام محض هراء...فاسرائيل وعملاؤها يتحيّنون الفرص لاغتيال عرفات، ولكن ما اعلمه علم اليقين هو ثلاث حقائق:

الأولى، ان آرييل شارون لا يريد عرفات ميتا اليوم...لا حبا فيه، بل حرصا منه على الا يموت الرئيس الفلسطيني شهيدا في عز الانتفاضة، وتمنيا أن ينتهي عرفات سياسيا ومن تلقاء نفسه داخل الشارع الفلسطيني.

والثانية، ان اسرائيل لو ارادت حقا اغتيال عرفات لفعلت، اذ لديها - مع الأسف - من المخبرين والعملاء وتقنيات الرصد والتجسس ما يسهل لها هذه المهمة في أي وقت.

والثالثة، ان عرفات صنع اسمه وخلق هالته النضالية أصلا كـ«فدائي». وعليه كان حريا به ان يعتبر نفسه مثل أي طفل من أطفال «الانتفاضة»...مجرد جندي من جنودها. أي انه معرض للموت في أي لحظة، ومتأهب للموت في أي لحظة، وليست روحه ابدا «اغلى» من ارواح غيره من اطفال الحجارة او رجال الشرطة المقصوفة مخافرهم او فدائيي «حماس» و«الجهاد الاسلامي».

ان شرعية القيادة تصنعها لحظات مفصلية... ومواقف عميقة المعنى والمغزى. واستمرارية القيادة تقتضي استمرارية النضال والعطاء وتقبل المحاسبة..لا النوم على تضحيات الماضي. وهنا تحضرني قصة تروى عن جورج واشنطن، محرّر الولايات المتحدة واول رؤسائها، ابان حرب الاستقلال ضد قوات الاستعمار البريطاني. اذ يقال انه وصل في احد اشهر الشتاء متدثرا بمعطفه الى منطقة يخترقها نهر وفيها كتيبة من الجنود الاستقلاليين الأميركيين يقودها ضابط برتبة نقيب (كابتن).وفوجئ واشنطن ـ وكان يومها برتبة لواء (جنرال) بأن النقيب يزمجر آمرا جنوده يمنة ويسرة ببذل مزيد من الجهد في مد جسر على النهر من اشجار قطعوها بفؤوسهم من دون ان يقدم لهم أي عون جسدي. فما كان من واشنطن الا التقدم من الجنود ومساعدتهم في حمل الجذوع المقطوعة وربطها ببعضها حتى اكتمل مد الجسر، وعندها دنا من النقيب وسأله بلطف عن سبب احجامه عن مساعدة الجنود في عملهم الشاق... فرمقه النقيب بصلف وأشار باصبعه الى النجوم المطرزة على كتفي معطفه ونهره مستهجنا «ألا ترى انني كابتن؟». فابتسم واشنطن «...لا تؤاخذني يا سيدي، ولكن اذا كنت تريد ان تعرف من انا للا ستعانة بي مستقبلا في مناسبات كهذه...فانا الجنرال جورج واشنطن!!!» ما حصل يوم 24/12/01 كان لطمة اليمة لكل من راهن على ثبات مواقف القيادة الفلسطينية وحنكتها السياسية، والأسوأ انه كان لطمة ايضا لكل من كان يحلم باحراج حكومة شارون تمهيدا لاخراجها وانتزاع زمام المبادرة منها. لقد خذل الرئيس عرفات حلفاءه، وخذل كل من اراد الخير لشعبه ـ حتى داخل معسكرات الخصم - المنزلق اكثر فأكثر الى أعماق العسكرة المتعصبة، التي سيدفع المواطن الاسرائيلي ثمنها باهظا بمجرد انقشاع غمامة الهستيريا الأمنية المفروضة عليه برصاص تجار الموت وهليكوبترات القنص العاملة في خدمة الارهاب الحكومي الاسرائيلي.

نعم..لقد خسرنا وخسر معنا اناس اشراف كثيرون في هذا العالم فرصة نادرة لايقاظ من ما زال مستغرقا في النوم، بينما تتأصل الاحقاد ويتعزز منطق الفاشية الأعوج ويهرب سالبو احلام السلام الحقيقي الى الأمام... نحو مزيد من التآمر الأسود المستقوي بحجة ان لغة القمع هي اللغة الوحيدة التي نفهم...

وكل عام وانتم بخير.. وكان الله في العون.