رجل طوال ويا للأسف

TT

بين زملائنا في التصحيح وبيني، اتفاق غير مكتوب ولا موّقع ولا مؤرخ ولا محدود، يقضي، بكل طيبة وعدالة، ان يتركوا النص لي وان اترك لهم الصرف، واذا ما تعقد موقع الهمزة فالاملاء ايضا، شكوى القشطيني الدائمة، لكن في النحو اعطي نفسي بعض الثقة وبعض الحرية، من دون ان اثقل عليهم او على القراء، معتدلا ما امكن وما تيسر لي، ولسان حالي البيت القائل:

ولست بنحوي يلوك لسانه ولكن سليقي اقول فأعربُ وبقدر ما ابتهج بعبقرية اللغة واجوب في منفسحاتها، بقدر ما احاذر الغلو. فاذا توافر الصحيح البسيط رميت الصحيح المفتعل. وبالاضافة الى ان هذا طبع مولود، فقد زاد من حبي للبساطة الزملاء القاموسيون الذين عرفناهم ايام العمل في «النهار» حيث لا يزال حتى اللحظة وسيبقى حتى قيام الساعة، ممنوع عليك ان تقول «للاسف» بل يجب ان تردد مع اهل الكوفة «ويا للاسف». ولا يجوز لك القول «لفت نظره» بل قل حفظك الله «لفته»، باعتبار ان النظر لا يلفت في «النهار»، وعندما اكتب لـ«النهار» شيئا الآن اتجنب استخدام اي كلمة او تعبير سيقع عليه سيف النحاة في الزميلة الكبرى، لانني، ويا للاسف، لا اطيق تعبير ويا للاسف بل انني افضل عليه، آسف، آسفون، للاسف، حماكم الله واسعدكم وابعد الاسف عن دياركم ومعه هذه السابقة الانتحابية الملعونة: ويا! فلنعد الى دائرة التصحيح في لندن، وهي ارأف بحالنا وادرى باحوال القراء. فاذا استخدمتُ احيانا تعبيرا قابلا للاخذ والرد، يتصل بي احدهم من لندن الى حيثما كنت، ليقول لي ان القاموس لا يجيز ذلك. فأحاول ان اقنعه بقاموس آخر. واترك له دائما القرار. لكن في الآونة الاخيرة استخدمت مرتين في زاويتين متقاربتين كلمة رجل «طوال» بدل «طويل» و«اطلعت» كتابا بدل «اطلعت على». وفي المرتين وقع سيف تصحيح الصحيح. ولا مانع ولا عتاب. فالاصح من الصحيح في بعض الحالات هو المتفق عليه. فطالما اختلف النحويون وطالما تركوا الامر في النهاية الى العزة الالهية. واذا اردنا العودة الى اصول الكلمات لا يبقى لنا في ما نكتب سوى القليل. فمعظم الكلمات التي نستخدمها الآن اصبحت لها معان مختلفة عن اصولها اختلافا تاما. وكنت اسجل في الماضي امثلة على ذلك لكنني توقفت لان حصرها مستحيل. وعلى سبيل المثال فقط، نستخدم في لبنان كثيرا الآن كلمة «الخروق» في الحدود مع اسرائيل، لكن الخروق في الاصل هي الارض الواسعة. ونستخدم بطريقة شبه يومية كلمة «يفضي الى» بمعنى ينتهي الى او يقود الى، وتعني في الاساس «يذهب الى الزواج». ونقول «يعول عليه» بمعنى الاعتماد او الاتكال، واساسها رفع صوته بالبكاء. والهمجة او الهمج التي تطلق على الحالة البشرية في هذا العصر، اصلها «الذباب الصغير». ونقول «الاسهاب» بمعنى الشرح المفصل وهو قديما الرغو. والرغو حفظك الله للجمل. وكانت العرب تعطي لكل صوت في الحيوانات والطيور صفة، فيقال ضفدع ينق وثعلب يعوي وديك يسقع وثور يخور وبغل يشحج وناقة تحن وحمل يثغو وسنور ينوء وظبي ينزب وحمام يهدل وقرد يقهقه وغراب ينعب. وهو كثير. يأكل من حقول الغير وينعب. ينقض على غلال الغير وينعب. يقذرّ في ارزاق الغير وينعب. يستعاذ من جواره ومن صباحه ومن مسائه، وينعب.