بيان للضمير

TT

صدر في جنوب أفريقيا منذ حوالي اسبوعين بيان بعنوان «بيان للضمير» كتبه روني كاسريل وزير المياه والغابات في الحكومة الحالية وماكس أوزنسكي، وهما يهوديان من مناضلي حركة التحرير ضد حكومة الأبارتايد البيضاء التي اضطهدت وقتلت المواطنين السود أصحاب الأرض الأصليين. وكان روني أحد الذين اعتقلتهم الحكومة العنصرية البيضاء مع نلسن مانديلا ضمن سبعة من المناضلين البيض كان منهم خمسة من اليهود. وقد وقع على هذا البيان 220 شخصية من يهود جنوب افريقيا ذوي السمعة العالمية منهم الكاتبة نادين الحائزة جائزة نوبل في الآداب.

والبيان يندد بعمليات الابادة التي تقوم بها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني ويتنصل من كل الجرائم التي ترتكبها الحكومة العنصرية الاسرائيلية، حيث كان العنوان الفرعي للبيان «ليس باسمنا»، أي ان ما يتم من عدوان على الفلسطينيين وحقوقهم ليس باسم اليهود وليس بموافقتهم بطبيعة الحال. وقد ثار جدل حاد بين اعضاء الجالية اليهودية في جنوب افريقيا وعددهم حوالي ثمانين ألف شخص حول البيان وتصدى له البعض بالنقد، ذلك ان البيان وجد ان سلوك الحكومة الاسرائيلية نحو الفلسطينيين هو نفس سلوك حكومة جنوب افريقيا العنصرية ضد المواطنين السود اصحاب الارض الاصليين، كما ذكر بموقف اسرائيل المؤيد للحكومة البيضاء العنصرية قبل سقوطها، وان الرشاشات التي قتلت الاطفال والنساء والشيوخ في «سويتا» كانت من صنع اسرائيل. والمعروف ان معاهدات وثيقة كانت قائمة بين اسرائيل وحكومة الأبارتايد في جنوب افريقيا بما في ذلك صناعة الاسلحة النووية. وطوال فترة حركة التحرير الوطني في العالم كانت اسرائيل تساند القوى الاستعمارية والقوى الفاشية في الكثير من دول العالم التي كانت تحكم بقوى عسكرية غاشمة. ولم يعرف في كل تاريخ اسرائيل منذ قيامها حتى الآن وقوفها الى جانب أي قوة تحررية صاحبة حق في العالم.

وعلى الرغم من ان اليهود الذين عارضوا «اعلان الضمير» رفضوا تشبيه اسرائيل بحكومة الأبارتايد العنصرية، إلا ان حجة البيان ـ الذي لم يزد على نصف صفحة من ورق الكتابة العادي ـ كانت أقوى من هذه الاعتراضات، ولوحظ ان اكثرها جاءت من «الراباي» ـ رجال الدين.

ومع ان البيان صدر باسم اليهود أو بعضهم في جنوب افريقيا إلا انه كان نوعاً من الخروج والتمرد على المشاعر القبلية والانتماءات «القومية». وكان له طابع عالمي واضح، فكون الانسان يهوديا أو اميركيا أو مسيحيا أو بريطانيا أو مسلما أو بوذيا لا يعني ان يستسلم للاتجاه العام لمعتقدات الناس في هذا الدين أو ذلك الوطن أو العرق اذا كان خاطئا، وهي بادرة ذات دلالة متعلقة بانجازات حركة التطور الانسانية، فهؤلاء اليهود الموقعون على البيان كانوا محسوبين على العنصر الابيض ومع ذلك انحازوا الى جانب حركة تحرير جنوب افريقيا ضد العنصرية البيضاء. وهم اليوم يتجاوزون هذا الى رؤية حرة لا تعبأ بالمشاعر التي يولدها الانتماء الى اليهودية كدين وربما كقومية ايضا. وهو تجاوز بالغ الاهمية، فلأسباب تاريخية كان اليهود يترابطون بقوة ويتحيزون لأنفسهم ضد كل شيء ما عداهم، وربما كانوا هم أكثر الجماعات البشرية العقائدية توحداً وتحيزاً والتصاقاً بديانتهم وعرقهم. ولنفس هذه الأسباب كانوا سباقين الى التنظيمات السرية والتجمعات التنظيمية بكل اشكالها التي تقتصر عليهم.

حقاً عرف التاريخ عناصر أو قل افراداً من المنشقين اليهود ذوي الرؤية العالمية أو الانسانية العامة، إلا ان المرحلة التي نعيشها اليوم حشدت فيها كل القوى والمعنويات المؤثرة لمساندة دولة اسرائيل الناشئة، وقد حسمت اغلبية يهودية الصراع بين فكرتي الاندماج في المجتمعات التي يعيش فيها اليهود ـ وخاصة في الغرب الاوروبي ـ وفكرة انشاء دولة لهم تقيهم الاضطهادات العنصرية التي تعرضوا لها في تاريخ «الدياسبورا» الطويل.

وعندما قامت اسرائيل استقطبت تأييد الغالبية العظمى من اليهود، حتى هؤلاء الذين فضلوا البقاء في أوطانهم تولد لديهم احساس ديني وقومي بتأييد اسرائيل وحمايتها. وهو موقف اخلاقي بالغ التعقيد، لان اسرائيل قامت على ارض شعب آخر ـ رغم دعاوى قادة الحركة الصهيونية ـ وما زالت شرعية هذه الدولة الناشئة مهزوزة في الأذهان ومن الصعب على أي انسان محايد أو موضوعي من بين اليهود الاطمئنان بشكل قطعي بأن العودة الى ارض صهيون بعد غيبة ألفي سنة هي حق طبيعي لليهود. وعلى اليهودي لكي يتقبل مساندة دولة اسرائيل ان يُلغي مدركاته العلمية والعقلانية ويغرق نفسه في التاريخ اللاهوتي المتقلب والمتعدد الوجوه حتى يتقبل ضميره مساندة الدولة حتى في ما تقوم به من عدوان على حقوق شعب آخر، الى حد الابادة بوحشية ربما فاقت ابشع ما لحق باليهود في أزمنة الاضطهاد المختلفة. وهكذا يصبح على المثقف اليهودي المعاصر ان يفكر بمنطقين، احدهما عقلاني علمي معاصر والآخر لاهوتي عرقي انغلاقي.

ومثل هذا الموقف لا يمكن ان يصمد طويلا، ودعاة الحركة الصهيونية المعاصرون ينبثقون من بين رجال اللاهوت ويتضاءل دور العلمانيين بالتدريج وحكومة شارون الحالية تستند اساساً الى الاتجاهات الدينية اكثر مما تستند الى الفكر العلماني. وهو كما ترى تيار معاكس ومناقض للمسيرة العالمية التي تنشد التسامح والانفتاح على كل الديانات والأعراق. ومع ان العقائد الدينية من الممكن تفسير أسسها تفسيراً عقلانياً، إلا ان التيار اللاهوتي الديني داخل اسرائيل بالغ التعصب وكاره للآخرين الى درجة الخصومة القاتلة والمدمرة. وهو أمر متوقع كلما كان من الصعب قبول ما يسفر عنه التفكير العقلاني الموضوعي والعلمي.

وخروج مجموعة المثقفين اليهود في جنوب افريقيا علامة ذات دلالة مهمة جداً. حقا إن قادة التذمر اليهودي هم من المناضلين القدامى ـ ربما في أعظم حركة تحرير في العالم، وبالتالي ينطلقون من هذه الارضية الاخلاقية الرفيعة ـ إلا ان يقظة الضمير الذي يمثلها بيانهم متعلقة ايضاً باتساع المفاهيم العصرية وبخاصة فكرة التسامح وحركة العولمة التي بدأت تهز المشاعر القومية، بل راحت تهدم اسوارا حقيقية في مقدمتها نظرية السيادة القومية باعتبارها القوة السلطوية التي لا تعلوها سلطة أخرى، ثم حس المشاركة الانسانية الذي ينمو ـ حقا في اتجاهات متعددة ـ في الحياة على كوكب تم اكتشاف هشاشته وقابليته للهلاك في أي لحظة.

ولما كان ارتباط اليهود الديني والقومي هو من اقوى الارتباطات بالنسبة لسائر التجمعات البشرية، فإن التنصل من هذا الارتباط ـ أو إضعافه على الأقل ـ هو علامة من علامات التحول الفكري والعقائدي التي بدأت تظهر في أوساط المثقفين في العالم. وبيان «اعلان للضمير» اليهودي الجنوب افريقي ليس بداية فهناك الكثير من التمرد في أكثر من موقع، انظر الى مواقف عالم مرموق هو تشومسكي اليهودي الاميركي، بل انظر الى الاحتجاج الصريح الذي ظهر في كتاب «صناعة الهولوكوست» الذي يفضح الاستثمار المادي للقادة الصهاينة لعذاب اليهود في المذابح النازية.

ومع ان القوى الرجعية ـ بل قل قوى الشر ـ حسب توارد هذه العبارة في الكثير من خطابات السياسة هذه الأيام، تقاوم التحولات التي تجري الآن. نرى هذا في المواقف المتطرفة في السياسة العالمية، بل في التمحك بالديانات مع تفسيرها تفسيرات ضيقة الأفق تحركها المشاعر «القبلية» المنقرضة أكثر مما تحركها اسس الديانات التي تقوم في الواقع على الرحمة والمشاركة والعدل وكل القيم الرفيعة التي كان يتطلع اليها الانسان. وعلى الرغم من ان مقاومة هذه القوى لحركة التقدم في العالم بالغة العنف، وتبدو كما لو كانت مسيطرة على العالم تماما، إلا ان الاحتجاج اليهودي الجنوب افريقي ـ على الرغم من بساطته أو حتى محدوديته ـ يقف في مواجهة هذه القوة ويستثير ضميرها.

وربما كانت المؤشرات الواقعية تشير الى ان الدول ما زالت تسعى الى امتلاك القوة العسكرية والمادية بشكل عام، باسم حق الدفاع وباسم السيطرة على العالم في الواقع، إلا ان الرأي العام العالمي، في طليعته على الأقل، اصبح يدرك خطورة وجود قوة منفردة ومدى تأثير هذه القوة على الافكار وبالتالي توجهها الى افعال لا تتفق مع اخلاقيات العالم الجديدة.

لقد كانت اسرائيل منذ قيامها حليفة لكل القوى الغاشمة، شهدنا ذلك في حركات التحرير في اميركا اللاتينية وفي القارتين الاسيوية والافريقية، حيث تضامنت دائما مع الاستعمار والقمع، ومن الطبيعي ان تكون الآن حليفة لتلك القوى المناوئة لحركة التقدم في العالم.

ولا شك ان تاريخ العالم مليء بالنكسات، كما كانت القوة العضلية حاسمة في تغيير المواقف، وكثيراً ما كانت تتحرك في اتجاه التخلف، وبالتالي ليس من المؤكد ان قوى التحرر الجديدة ستنتصر، ولكن المتغيرات التي تحدث في العالم جديرة بالاعتبار، وربما استطاعت ان تشق طريقها وتخلص الجنس البشري من الكثير من معاناته، انظر مثلاً الى نظرية «المصالح» التي تعني مصالح دولة ما، بصرف النظر عن الضرر الذي ينشأ عنها بالنسبة لدولة أخرى، لقد بدأ الجدل حول شرعيتها أو سلامتها من الناحية الموضوعية. منذ فترة ليست قصيرة صار الكثير من المفكرين ينظرون الى العالم كوحدة جغرافية وسياسية واحدة، وان «المصالح القومية» لا تبرر السلوك المخالف لهذه «الوحدة». ربما كان مجتمع الوفرة الذي أمكن تحققه في بعض المواقع مسؤولاً أو مساعداً على التفكير في إمكان اشراك الآخرين في خيرات هذا المجتمع.

لقد كان الجزء الأكبر من خطاب الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون الأخير في لندن متضمناً لهذه الفكرة، وهي ـ بتأويل ما ـ ضرب صريح لنظرية المصالح. ولعل أفضل ما يستطيع ان يقوم به العالم العربي اليوم، هو استنباط الفكرة الصحيحة للاصلاح، داخل الوطن وخارجه، فمن قلب المعاناة الشاقة التي يعيشها مواطنونا، خاصة من قلب الاضطهاد الدموي الاسرائيلي، من الممكن ان تنبثق الرؤية الصائبة.