واشنطن: عودة للمستقبل وللقرن الثامن عشر

TT

بالرغم من مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد التي زينت العاصمة الاميركية واشنطن على امتداد أسابيع، يلاحظ الزائر وللوهلة الأولى ان الناس هنا ليسوا متحمسين للابتهاج. ومراكز التسوق التي كان يفترض أن تزدحم بمتسوقي نهاية العام تبدو مقفرة إلى حد ما، كما أغلقت الكثير من المتاجر أبوابها. المتاجر الوحيدة التي تبدو في وضع أفضل هي تلك التي تبيع منتجات تذكارية لها علاقة بحرب الاستقلال الأميركية التي وقعت خلال القرن الثامن عشر. وكذلك الحال بالنسبة للمتاجر التي تعرض ملابس تعود تصاميمها للقرن الثامن عشر أيضا، فساتين أنيقة وطويلة للسيدات، وجاكيتات ضيقة للرجال.

ولم تبرز فساتين وجاكيتات القرن الثامن عشر فقط كأحدث صيحات الموضة في الولايات المتحدة. لكن يبدو ان الولايات المتحدة عادت وهي على أعتاب العام الثاني من القرن الجديد، تنظر إلى عصر رومانتيكي مضى، تستلهم منه مستقبلها السياسي أيضا.

وهناك ثلاث أطروحات يعود تاريخها للقرن الثامن عشر باتت تتردد بإستمرار في أوساط واشنطن السياسية هذه الأيام:

الأولى هي أن الدول ليس لديها أصدقاء أو خصوم دائمون، وأن على الولايات المتحدة ألا تعتمد على تأييد الشركاء والحلفاء التقليديين غير المؤكد. وهذه الحقيقة المفجعة شعر بها الأميركيون عندما استخدمت دول أوروبية اعضاء في حلف الناتو مرارا عبارات «لو» و«لكن» وهي تعرض تأييدها الافتراضي لاي إجراء أميركي ضد الإرهابيين المسؤولين عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وقد اتضحت الرؤية بجلاء لدى الأميركيين عندما تخلى حلفاء أميركا الأصليون عنها. حتى الكويت التي تحررت من الاحتلال العراقي بجهود تحالف قادته الولايات المتحدة، تبين لها صعوبة الإعلان عن دعمها للإجراء الأميركي ضد تنظيم القاعده وحركة طالبان. كان رد الفعل الأميركي في بادئ الأمر يعكس شعورا بالمرارة القصوى. لكن وبعد ثلاثة أشهر لاحقة، تلاشت تلك المرارة تقريبا، وتم استبدالها بإدراك بارد مفاده: لا تعتمد حتى على أولئك الذين يدينون لك بحياتهم.

هذا «الإدراك الجديد» يعني ان على الدول أن تشترك في تأسيس تحالفات تكتيكية تناسب أوضاعا معينة. وهكذا، تم الاعتماد على تأييد روسيا والصين لأنهما ترغبان في تدمير نظام طالبان. كما انضمت إيران إلى التحالف أيضا، رغم انها مارست اسلوبها المعتاد المتمثل في «التقية» (التخفي) لأنها أيضا، أرادت أن ترى رحيل الملا محمد عمر عن السلطة. حتى ان القوات الأميركية اشتركت مع قوات إيرانية تدعم إسماعيل خان في السيطرة على مدينة هرات، حيث وفرت الولايات المتحدة القوة الجوية، التي اعتمدت على معلومات من قوات برية، فيما أدار «فنيون» من إيران المدافع التى استخدمها مقاتلو خان.

أما الأطروحة الثانية التي تحظى هذه الأيام بشعبية في واشنطن، فتتمثل في أن الأداة الوحيدة الفعالة التي يمكن للدبلوماسية أن تستخدمها في آخر المطاف هي استعمال القوة. حيث بدأ حلفاء الناتو بتعديل موقفهم عندما أدركوا ان الولايات المتحدة كانت مستعدة ولديها القدرة على استخدام ما تحتاجه من القوة لتحقيق أهدافها. كما ان الحلفاء العرب أيضا غيروا لهجتهم عندما تبين لهم ان الولايات المتحدة ستنتصر بهم او بدونهم.

أما الأطروحة الشعبية الثالثة في واشنطن هذه الأيام، فتتمثل في الاعتقاد بان الدبلوماسية التي تهدف إلى تعديل سلوك بعض الخصوم يجب أن تستبدل بعمل يهدف إلى الإطاحة بهم. وهذه قد تكون نقطة مهمة بالنسبة للتطورات المستقبلية في أنحاء العالم، خاصة في هذه المنطقة.

واستعراض القوة الأميركية أدى بالفعل إلى بعض التغييرات المهمة في سلوك عدد من الدول. فاليمن بدأ بحملة لإقتلاع جذور تنظيم القاعدة، والسودان بات مستعدا للتراجع وتنفيذ ما تريده واشنطن منه (حيث تم الكشف مؤخرا عن عرض سوداني بتقديم المساعدة للولايات المتحدة من أجل القبض على أسامة بن لادن أو قتله، يعود تاريخه إلى عام 1995 ـ ذلك العرض الذي جاء في رسالة وجهها حينها «الرجل القوي» حسن الترابي عبر المصرفي الباكستاني منصور لياز إلى لي هاميلتون، الديمقراطي البارز الذي كان مهتما بالشؤون الخارجية، ونقلها بدوره للرئيس بيل كلينتون.

لقد اقترح الترابي أن يفعل مع بن لادن ما فعله في حالة الإرهابي الفنزويلي كارلوس «ابن آوى» الذي اختطف من مستشفى بالخرطوم بواسطة عملاء المخابرات الفرنسية. حينها يقال إن كلينتون تجاهل الرسالة لأنه لم يرغب في التورط في الصراع الذي كان دائرا بين الترابي والرئيس عمر حسن البشير).

وتعاونت إيران في أفغانستان إلى حد انها تبدو مستعدة لتقبل احتمال عودة الملك السابق محمد ظاهر شاه. كما انها قامت أيضا بسحب وحدات الحرس الثوري التابع لها من سبعة مراكز، وقامت بطرد عدد غير معلوم من المتشددين العرب. وأيدت سورية أيضا الحرب ضد الإرهاب، كما حرصت بدعم من إيران، على تأكيد أن لا تتعرض إسرائيل لأي هجوم من لبنان، للمرة الأولى خلال 20 عاما تقريبا.

وهكذا يمكن استنتاج ان معظم أنظمة الحكم ستعدل سلوكياتها إذا ما توصلت إلى قناعة بأنها لو لم تفعل ذلك فإنها ستتعرض للإطاحة بها.

لقد مثلت مسألة تعديل سلوكيات الخصوم أهم مبادئ العمل الدبلوماسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفى الواقع فإن الاتحاد السوفياتي وبالرغم من التزامه بتدمير العالم الغربي «الرأسمالي»، كان يهدف فقط إلى تعديل سلوكيات الدول الغربية. وفي المقابل تمسك الغرب بسياسة التحدي، التي وضعت هي الأخرى من أجل التأثير على سلوك الطرف الآخر لانتزاع موطن قوته. واعتراف واشنطن بالصين الشعبية في نهاية المطاف مثل نموذجا آخر لتلك السياسة.

لعقود طويلة اختارت الولايات المتحدة أن تتساهل مع نظام كوبا المعادي، في الوقت الذي ظلت تأمل في أن تؤثر على سلوكه من خلال العقوبات الاقتصادية. وعندما استولى الملالي على السلطة في إيران، تبنت الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، مرة أخرى، سياسة «تغيير السلوك». وتم اتباع نفس السياسة في حالة العراق، التي سمحت ببقاء النظام، رغم انها طردت قواته من الكويت بالقوة.

الاتجاه الجديد في واشنطن يشير إلى تبني سياسة إطاحة الأنظمة المعادية بدلا من العمل على تعديل سلوكها. وهذا الاتجاه مدعوم بالسهولة غير المتوقعة التي تفكك بها نظام طالبان في أفغانستان. وبطبيعة الحال فإن الهدف الرئيسي لهذا الاتجاه هو العراق. وأولئك الذين يرغبون في استهداف العراق لم يعودوا يأبهون حتى بذكر تورط العراق المزعوم في كوارث الحادي عشر من سبتمبر. ذلك انهم يريدون فقط تغيير النظام في بغداد لأنهم يعتقدون أنه النظام الوحيد في المنطقة الذي لا تتوفر لديهم القدرة على تغيير سلوكه المعادي. ويزعم هؤلاء ان الرئيس صدام حسين سوف يرتكب اعمالا ضارة متى واينما اتيحت له اول فرصة.

لا يشعر الزائر لواشنطن بأن الهجوم على العراق بات حتميا. لكن هناك انطباعاً جلياً بأنه وفي وقت ما خلال المستقبل ستظهر مسألة الإطاحة بالرئيس صدام حسين في مقدمة برنامج العمل الأميركي. فمسألة ما قد يحدث مع العراق كان واحدة من تلك القضايا المتناقضة التي جعلت التاريخ السياسي مدهشا. إذ أن إسرائيل ومؤيديها يعملون بنشاط من أجل تأجيل استهداف العراق لانهم يريدون من واشنطن أن «تتعامل أولا مع إيران». وذكرت التقارير ان رئيس وزراء إسرائيل استغل جزءا كبيرا من وقت مباحثاته مع الرئيس جورج بوش، في التشديد على مبدأ «إيران أولا». والسبب هو ان شارون يعتقد ان إسرائيل يمكنها التعامل مع العراق بمفردها ـ إذا ومتى ما تطلب الأمر ذلك ـ بينما لن تكون قادرة على هزيمة إيران في مواجهة مباشرة.

ويزعم اللوبي المؤيد لإيران ان خطوة «إيران أولا» التي ينتهجها شارون، لها دوافع أخرى، حيث يطرحون ان شارون يشعر بالقلق بشأن احتمال أن تعود إيران لتصبح حليفا للولايات المتحدة خلال ما يقرب من عقد من الزمن. ولو حدث ذلك فإن إسرائيل، التي تثير الضجيج لكونها الحليف الوحيد الحقيقي لواشنطن في المنطقة، قد تكون غامرت بتعريض نفسها للتهميش.

الشعور السائد في واشنطن يمكن أن يتسم بالإيجابية وبالخطورة معاً. قد يكون إيجابيا إذا ما أدى إلى الاستخدام القانوني للقوة الأميركية لصالح توازن قوى جديد وأكثر استقراراً في المنطقة. وقد يصبح خطيرا إذا ما تبنى أوهاما بشأن فعالية استخدام القوة في جميع الحالات.

فتحقيق النصر في الجزء العسكري من النزاع قد يكون سهلا كما هو الحال ضد العراق في عام 1991، وضد حركة طالبان مؤخرا. لكن تحقيق النصر في الجانب السياسي والثقافي والاجتماعي من النزاع قد يكون أكثر صعوبة. وقد أدرك ساسة القرن الثامن عشر ذلك بينما لم يفعل نظراؤهم في واشنطن اليوم. وهذه مسألة مثيرة للقلق على أقل تقدير.