إعادة الاعتبار للعمل السياسي

TT

ظهرت على شاشات العالم لافتة، رفعها متظاهرون في بوينوس آيرس، يحبذون تولي رودريغيزسا رئاسة الجمهورية مؤقتا، كتبت عليها بالخط العريض، هذه العبارة التي قد تبدو لنا قدحية: «رودريغيز يسرق لكنه ينجز». وهي بالفعل قدحية في اللغة السياسية وفي عرف الأخلاق، لكن من كثرة ما رأيتها تستعمل في أميركا اللاتينية في حق السياسيين، أخذت استوعبها كدرجة من درجات تقويم كفاءة السياسيين. فقد سمعتها تقال في حق معلوف حاكم ساو باولو في البرازيل، وسمعتها تقال في حق مرشح للرئاسة في بيرو سقط أمام فوجيموري، إذ كتبت إحدى الصحف غداة تنصيب فوجيموري، ان خصمه كان ضعيفا، فلا هو يسرق ولا هو منتظر منه أن ينجز شيئا، أي أن العبارة استعملت بالضبط للذم، وكأن كاتبها يطعن في كفاءة الرجل مرتين، لأنه لا يسرق، وبالتالي لا خبرة له، ولا ينجز فهو إذن سياسي عاجز. ومما يجعل هذه العبارة دارجة على الألسن في أقطار أميركا اللاتينية، أن الطبقة السياسية هناك مصنفة في مرتبة متدنية من حيث الاعتبار، بسبب فسادها وهيمنة العلاقات النفعية في الوسط السياسي. والتطاول على المال العام سلوك منتشر يمارس بلا تستر، إما بالتبذير الفاحش الذي تسمح به «الموردوميا» أي الامتيازات العينية التي يحظى بها المتولي لمنصب عمومي، تنفيذي أو انتخابي، وإما باستغلال النفوذ بالاستحواذ على صفقات بوسائل ملتوية، مثل رئيس تلك اللجنة البرلمانية الذي كان يحول مخصصات اللجنة إلى حسابه الشخصي، في شكل تعويضات مختلقة عن تنقلات واجتماعات إضافية. وكان هذا في الحقيقة ملفا صغيرا، ولكن الذي جعل الموضوع مثيرا، هو أن السيد النائب كان يرأس لجنة تحقيق برلمانية في أحد ملفات الفساد، أي حاميها حراميها. لم أذكر اسم البلد الذي وقعت فيه الواقعة، لأن الحالة لا تقتصر على بلد بعينه، بل هي عامة لا يتوانى الناس عن الجهر بإثارتها، حتى في موقف للتعبير عن الحبور، كما هو الشأن بالنسبة لأصحاب اللافتة المشار إليها، من البيرونيين المسرورين بعودة الأمور إلى أيديهم، بعد أن ذهبت الانتفاضة الشعبية بالحزب الراديكالي. ومما كتبته الصحف الأرجنتينية في غمار الأزمة المفتوحة بسبب تلك الأحداث، أنه أصبح مطلوبا التدقيق في المديونية، للتعرف على ما هو دين عمومي يمكن أن يحسب على الشعب الأرجنتيني، وما هو تلاعب يجب أن يحاسب عليه مرتكبوه.

وفساد السياسيين هو الذي كان مبررا لحملات تطهير في فنزويلا، وبيرو، وقبلهما البرازيل على عهد كوللور، الذي تغذى به السياسيون قبل أن يتعشى بهم. وهو ذات السبب الذي أدى إلى تغيير الطبقة السياسية في إيطاليا، بعد عملية الأيدي النظيفة التي قادها القضاء. إن فساد الطبقة السياسية من أكثر المخاطر التي تهدد الديموقراطيات اليوم. وقد قام القضاء أحيانا بدور في تقويم الأوضاع. وقامت الصحافة غالبا بدور أساسي في التنديد بالفساد. وأدى سياسيون ـ شغلتهم أغراضهم الأنانية عن التصرف بحكمة وأمانة لدى القيام بمهامهم ـ ثمنا فادحا لوقوعهم في حبال الإغراءات المتنوعة، أو لوقوعهم في خطيئة الاستهانة بمراقبة الناخبين. وقد لحق العار رؤساء ناجحين في الولايات المتحدة واليابان، بينما خرج مرفوع الرأس، وزير فرنسي استقال من الحكومة، لأن ملفا قديما فاحت منه رائحة تلاعب، ووضع الرجل نفسه رهن إشارة القضاء، فظهرت براءته، وعاد إلى الحياة السياسية بمعنويات من نجح مرتين، حينما استقال لكي يتيح للقضاء أن يتصرف بكل شفافية، وحين خرج بريئا من شبهة لحقته.

إن المجتمعات الديموقراطية في الغرب، لا تكف عن تلقيننا دروسا مدهشة نحن المعتادين على عدم المساءلة في أكبر الزلات وأصغرها. و آخرها أن الرئيس السابق كلينتن لم تشفع له حصيلته الاقتصادية البراقة في فترة ولايته، في أن ينال رضى الجهاز القضائي في بلده، فحينما قدم طلبا بشأن الحصول على حق الترافع كمحام أمام المحكمة العليا، رفض طلبه، بحكم أنه سبق أن ثبت عليه الكذب في شهادة ادلى بها أمام القضاء.

إن الأمثلة كثيرة في المجتمعات الديموقراطية على تعرض الطبقة السياسية لإغراءات متنوعة، مما ينطوي على دروس جمة بالنسبة لديموقراطيات فتية توجد في أول الطريق، كما هو الحال عندنا.

وتنشغل الطبقة السياسية حاليا في المغرب، بتحصين الممارسة الديموقراطية من المخاطر التي تحذق بها، من خلال تضييق هامش المناورة على مفسدي الحياة السياسية، ممن يعتبرون اقتحام العمل السياسي مطية للاغتناء السريع، وتحقيق مكاسب ذاتية، في حين أن العمل السياسي النبيل هو رسالة قبل أن يكون مصدر عيش.

والتدقيقات التي تتم حول شكل بطاقة التصويت، والتشدد في المراقبة، ورفع سقف العقوبات بالنسبة للمدلسين والمتاجرين بالأصوات، كل ذلك يهدف إلى وضع مزيد من الصعوبات أمام من تسول لهم أنفسهم إفساد الانتخابات. ويُرجى من وراء تغيير نمط الاقتراع، من الأحادي إلى اللائحة، أن ينشئ ثقافة سياسية جديدة، قوامها تعزيز دور الأحزاب في الحياة السياسية المغربية، بدلا من نمط الاقتراع الحالي الذي يساعد أكثر على بروز البارونات من صائدي الأصوات بالخداع أو بشرائها بالمال. فالمصوت على اللائحة يقترع على برنامج وليس على شخص كما هو الشأن في النمط الأحادي. ومن هنا فإن المباراة الانتخابية تكون على المشاريع والأفكار.

إن الفساد الذي تسرب إلى الحياة السياسية المغربية، يرجع إلى أن الإدارة كانت تتدخل مباشرة في صنع النتائج الانتخابية. وكانت نتائج أول انتخابات برلمانية جرت في البلاد، قد ظلت تتغير من يوم إلى آخر طيلة شهور، منذ مايو (ايار) 1963، حتى إذا فتحت الدورة البرلمانية الأولى في نوفمبر (تشرين الثاني) كانت الداخلية قد ضمنت أغلبية لصالح الحكومة في مواجهة كل من حزبي الاستقلال والاتحاد. والاتجاه اليوم هو نحو انتخابات لا تمت بصلة إلى الممارسات السابقة التي جعلت النتائج دائما مطعونا فيها، لأن الغرض كان هو إفراز مؤسسة برلمانية مأمونة، أي كفيلة بأن تؤمن الأغلبية المناصرة للحكومات التقنوقراطية. ومن هذا الباب دخل المتسلقون والمغامرون. ومن تجرئه على غيرك لا تأمن أن يجرأ عليك. ومن هنا كان التمييع الذي اعترى الحياة السياسية، وهو أيضا المدخل للنهب الذي حدث للمال العام.

والآن لم تعد هناك حاجة إلى تلك التدخلات الشرسة والشوهاء في ظل توجه يكتنفه التوافق حول الثوابت، بل إن العزم قوي على أن يرتقي المغرب إلى مصاف الديموقراطيات المكينة.

ومع ذلك يجب ألا يستبعد أن بعض صائدي الفرص، قد يستمرئون الديموقراطية، كلعبة لتحقيق أغراض مصلحية، ويقتحمون العمل السياسي ليس لخدمة برنامج ولا لتقديم مشاريع، ولكن كمجرد مطية. إن المشهد السياسي المغربي في حاجة إلى إعادة الاعتبار للعمل السياسي، كرسالة نبيلة، وليس كمجرد لعبة. فمما جرأ بعض المغامرين على اقتحام السياسة، أن الإدارة كانت تشجع على استنفار أشخاص للترشيح المضمون للنجاح، أملا في استخدامهم لمناوءة الصف الديموقراطي، وإمعانا في التمييع، في الوقت الذي كانت فيه الحياة السياسية في المغرب، تقوم على المواجهة بكل الوسائل والأساليب للأحزاب الديموقراطية. ومن هذا الباب دخل السياسة بعض المغامرين، الذين راموا المشاركة في المؤسسات لأنها تمنحهم الحصانة، للتماطل أو التهرب من أداء الضرائب، ومنهم من اقتحم العمل السياسي، لضمان الاستيلاء على امتيازات، فكانت الصفقات العقارية المريبة تتم على أيدي امثال هؤلاء.

ولأجل هذا، يتم تحضير تعديلات على قانون الانتخابات، تشدد العقوبات في حق المتلاعبين، وتحيط العمليات الانتخابية بعدد من التحصينات. كما يتم إعداد قانون للأحزاب يشدد على الديموقراطية الداخلية، وعلى الشفافية المالية. إن إعادة الاعتبار للعمل السياسي هي الكفيلة بتوطيد التعبئة وتعزيز الالتفاف الوطني حول المقدسات وضمان الارتفاع بالعمل السياسي إلى مستواه الرسالي.