التقرير الخطير.. فصل حزين في تاريخ أميركا

TT

لم تجد توسلات وزير الخارجية الأميركي جون كيري أي استجابة عند ديان فينستاين، رئيسة اللجنة المنتخبة المعنية بشؤون الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ. فقد رفضت طلب إرجاء إصدار تقرير اللجنة حول أعمال التعذيب وإجراءات التسليم التي اتبعتها وكالة الاستخبارات المركزية في ظل إدارة جورج بوش الابن.

خرج التقرير وكشف للعالم عن ملخصه، وبالطبع فقد توارت المعلومات الأشد خطورة التي تتصل بالأمن القومي الأميركي، ليحمل «عار أميركا» إلى الأميركيين خاصة، ولينزع من جديد صورة أميركا «المدينة فوق جبل» من أعين البشر.

عدة أمور يستوجب النظر فيها تأملا مليا، تتصل بهذا التقرير الخطير، في مقدمتها حالة الهلع التي أصابت إدارة أوباما من جراء نشر التقرير، والخوف من تعقيد العلاقات مع دول أجنبية، في وقت حساس، ما يخلف مخاطرة غير مقبولة لمواطني الولايات المتحدة ومنشآتها بالخارج، ولهذا جاءت الضغوطات على فينستاين لتأجيل إصدار التقرير لوقت آخر، وهذا في حد ذاته تحول صادم من جانب إدارة دعمت علانية إصدار التقرير طوال شهور.

هل كانت الاستخبارات تعمل بالفعل بمنأى عن الكونغرس والبيت الأبيض في عهد بوش؟

عبر صحيفة «واشنطن بوست» يتحدث خوسيه رودريجيز، المسؤول السابق في الوكالة، متهما الإدارة الأميركية بالنفاق، وعنده أنه في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) طالب المشرعون الوكالة بفعل ما في وسعها لمنع هجوم آخر على الأراضي الأميركية، ولإضعاف وتدمير تنظيم القاعدة، ولهذا يرى أن عملاء الوكالة قد فعلوا ما طلب منهم، فكيف للسياسيين اليوم أن يعربوا عن استنكارهم؟

هل قطعت عمليات التعذيب بالفعل الطريق على مواجهة أميركا للإرهاب؟

قد تكون هذه النقطة بالتحديد جوهر التقرير الخطير، فسطور الملخص تؤكد أن استخدام وسائل تعذيب غير آدمية في التحقيقات لم يؤدِّ إلى نتائج إيجابية، ولم يوفر معلومات صحيحة ودقيقة للمحققين، ويدلل التقرير على صحة هذا الكلام، بالإشارة إلى أن المعلومات التي كشفت عن مكان وجود زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، تم الحصول عليها من دون تعذيب من السجين حسن الغول أثناء تحقيقات عادية.

هل وقعت واشنطن في فخ الخيار الزائف والتوازنات المدمرة بين الحرية أو الأمن، بين مراعاة حقوق الإنسان والحفاظ على أمن مواطنيها وسلامتهم؟

يعترف جورج برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الحالي، وقد كان نائب مدير الوكالة في 2002، بأن هناك أخطاء قد ارتكبت، ولا سيما استخدام التعذيب في الحصول على معلومات، لكنه يحاجج بأن الأمر منع وقوع اعتداءات إضافية لاحقا.. هل يلقى هذا التقرير آذانا صاغية عند رجالات القانون الدولي والقائمين على شأن حقوق الإنسان حول العالم؟

الثابت أن التدابير الاستثنائية غالبا ما تكون بمثابة «تربة انزلاقية»، والمفارقة العجيبة أنها قد لا تقود إلى صيانة الدستور، بل إلى القضاء عليه، وإلى الإساءة إلى الحقوق الأساسية التي يضمنها ويحميها لئلا تحدث هذه النتيجة السلبية. وقد أثبتت تجربة الحادي عشر من سبتمبر، أي في ذروة زمن المد الإرهابي، أن ضرورة ضمان سير الحياة الاجتماعية وحمايتها من الاعتداء الخارجي تُعرض للخطر التمتعَ بتلك الحقوق عينها المراد حمايتها.

يكشف التقرير عن حالة «الزيف الديمقراطي»، إن جاز التعبير، بل يميط اللثام عن الازدواجية والنفاق القاتلين اللذين يخيمان على سماء واشنطن هذه الأيام.. لماذا؟

يشير موريس ديفيس، المدعي العام السابق بسجن خليج غوانتانامو، إلى أن التقنيات والوسائل التي استخدمتها الوكالة تعتبر جرائم حرب وجرائم بحق المجتمع الدولي، إذ لا يمكن للسلطات المعنية ارتكاب مثل هذه الجرائم التي تعد خرقا للمعاهدات الدولية.. هل يتوجب إذن وفقا لهذا التوصيف إنزال عقوبات رادعة على المسؤولين عن تلك الفضائح التي باتت تمثل فصلا حزينا في تاريخ الأمة الأميركية؟

رغم كثافة المعلومات الواردة في التقرير وخطورتها فإن اللجنة التي أعدت التقرير قطعت بالقول إنه لن يتطرق إلى توجيه اتهامات لإدارة بوش، ما يعني عدم وجود ملاحقات قضائية للمذنبين.

هكذا يقطع التقرير الطريق على العدالة ما يهز صورتها في داخل أميركا، مما يجبر اللسان الأميركي على أن يقصر في مواجهة دول العالم في شأن حقوق الإنسان، إذ الأولى بها أن تخرج الخشبة من عينها قبل أن تطالب الآخرين بأن يخرجوا القذى من أعينهم.

يعتذر أوباما للعالم بأنه ما من أمة كاملة، وأن أحد مكامن القوة في أميركا هي إرادة المواجهة الصريحة للماضي ومواجهة النواقص والتغيير باتجاه أفضل.. ما جدوى هذا الكلام؟

لا تغفر الذنوب إلا برد المسلوب، فهل لدى إدارته نية حقيقية لتعويض الضحايا أو معاقبة المذنبين؟ أم أن ما تقدم ليس إلا استعراضا لغويا جديدا لرئيس بارع خطابيا فاشل استراتيجيا؟

الخلاصة: العثور على الإبر قبل أن تزرع في أكوام التبن أمر لا يبرر أبدا حرق تلك الأكوام.