هل المنطقة الآمنة خيار ممكن؟

TT

تثير فكرة المنطقة الآمنة بعض الجدل القانوني والحقوقي حول إذا ما كانت الفكرة مختلفة عن فكرة المنطقة العازلة، التي تتم إقامتها في مناطق الصراع بين طرفين أو أكثر. وتجنبا لأي التباسات، فإن فكرة المنطقة الآمنة، هنا، تختصر باعتبارها منطقة خارج الاستهداف العسكري، يتم حماية السكان فيها، وقد شهد العالم إقامة مناطق آمنة مرات في الربع الأخير من القرن الماضي، على نحو ما حدث في البوسنة وفي شمال العراق، حيث جرى توفير ملاذات آمنة للسكان، وحمايتهم ولو جزئيا من الاستهدافات العسكرية.

وفكرة المنطقة الآمنة في سوريا، تكاد تكون بين الضرورات الملحة بعد سنوات 4 من الصراع المسلح، وما نجم عنه من قتل ودمار وتشريد للسكان، حيث أصبح نحو 5 ملايين من السوريين لاجئين في بلدان الجوار وفي الأبعد عنها، ونحو ضعفهم مشردين ونازحين داخل البلاد، والعدد مرشح للزيادة المطردة، إذ لم يتم التوصل إلى وقف الصراع والذهاب إلى حل للقضية السورية. بل إن لفكرة المنطقة الآمنة ضرورات تتعدى فكرة حماية السكان المدنيين في جوانب كثيرة، أبرزها إعادة قسم من اللاجئين إلى بلدهم، وإعادة تطبيع حياتهم، التي اختلت مساراتها وموازينها في السنوات الماضية، إضافة إلى خلق أو اختبار الأشكال الممكنة للإدارة لفترة ما بعد الصراع المسلح في مستقبل سوريا، ومعالجة ظروف ما بعد الصراع وغيرها من ضرورات.

ورغم أن أطرافا مختلفة ترى أو تؤيد فكرة إقامة المنطقة الآمنة في سوريا، فإن تركيا، جارة سوريا في الشمال، بين أكثر الأطراف حماسا لفكرة المنطقة الآمنة، وقد سمعت من مسؤول تركي كبير في الفترة الأخيرة ما يؤكد هذا الخيار، والمضي العملي نحو تحقيقه، خاصة أن الفكرة كانت مثار نقاش تركي مع أطراف إقليمية ودولية، اختلفت مع الأتراك، لكنها في الآونة الأخيرة اقتربت أكثر من الموقف التركي، وهذا ينطبق على الموقف الأميركي الذي أظهر تفهما أكبر للفكرة.

غير أنه قبل بروز الموقف التركي الأخير بشكل واضح، كان الائتلاف الوطني السوري، طرح قبل 6 أشهر مشروعه «العودة إلى سوريا» المتضمن انتزاع منطقة داخل البلاد، يتم الانتقال إليها، وجعلها محمية بكل الأشكال الممكنة، ورغم أنه لم يحدد الائتلاف في خطته بدقة المكان الجغرافي لبدء خطته «العودة إلى سوريا»، الذي قد يكون في شمال البلاد وربما في جنوبها، رغم أن الوقائع تميل إلى قول إن العودة ستكون إلى المناطق الأقرب إلى الحدود التركية، وهي المنطقة التي يرى الأتراك فيها حيزا لإقامة منطقة آمنة.

ضرورات إقامة منطقة آمنة تتقارب في الفكرتين التركية والسورية من جوانب عدة، وخاصة لجهة الضرورات المدنية، التي أشرنا إليها، ومنها حماية المدنيين، والملاذ الآمن للعائدين، وتطوير إدارة سورية جديدة، ومعالجة ظروف ما بعد الصراع المسلح، لكن الهاجس الأمني للفكرة قد يكون الأكثر أهمية في ضوء المخاوف من الأخطار العسكرية - الأمنية، التي تشكلها تداعيات الصراع في سوريا، ولا سيما في نقطتين، أولاهما النمو الكبير في قوة جماعات التطرف والإرهاب من «داعش» وأخواتها من أبناء «القاعدة» على حساب القوى المعتدلة في وجودها وانتشارها وتأثيره على السوريين والأتراك.. والثانية تنامي حضور وقدرات قوات الحماية الشعبية الكردية، التي تمثل امتدادا للخصم التقليدي للأتراك في سوريا حزب العمال الكردستاني «p.k.k»، مما يجعل تركيا أكثر رغبة في عزل الطرفين عن التماس مع حدودها، ولو في مناطق محدودة، تمثلها المنطقة الآمنة.

وإذا كانت المنطقة الآمنة ضرورة للسوريين والأتراك، فإن إمكاناتها تكاد تكون قائمة من الجانبين من الناحيتين السياسية والعملية. والأهم في الناحية السياسية أن ثمة حاجة لإعادة صياغة خريطة الصراع السوري، الذي تكاد لوحته في شمال البلاد تقتصر على حضور قوات النظام وقوات التطرف، بعد أن شهدت المنطقة تراجعا ملحوظا في وجود ودور الجيش الحر بما يمثله من قوة معتدلة، تقف في مواجهة تطرف وإرهاب مزدوج لنظام الأسد وتحالفاته المسلحة من جهة، وقوى «داعش» و«النصرة» من جهة أخرى، خاصة في ضوء استمرار الصراع، وانسداد أفق حل القضية السورية.

كما أن الإمكانات العملية لفكرة المنطقة الآمنة قائمة هي الأخرى، حيث هناك قوى اجتماعية ومناطق جغرافية معارضة لنظام الأسد من جهة، وفي مواجهة جماعات التطرف، فيها كثير من الارتباك والصراعات، مما يجعلها فريسة سهلة لواحد من الطرفين، أو لاقتسامها بينهما، وكل ما تحتاجه إقامة منطقة أو مناطق آمنة فيها، هو إعلان تلك القوى حضورها السياسي، ودفع التشكيلات المسلحة المعتدلة للوجود فيها، ومركزة قياداتها بعد تدريبها وتسليحها لتأمين قوة حماية على الأرض، فيما يقوم الأتراك بتوفير الحماية الجوية لها.

وإذا كان من الصحيح أن عملية كهذه لا بد أن تواجه تحديات ومشكلات كثيرة من أطراف عدة؛ فإن من الصحيح أيضا أن إخراج ما صارت إليه القضية السورية من انسدادات سياسية في مسارها نحو الحل، وما يمثله استمرار دموية النظام وصعود التطرف والإرهاب، وتداعيات الوضع السوري في المستويين الإقليمي والدولي، أصعب بكثير، وهي بين الحقائق التي لا يمكن تجاوزها بأي شكل كان.