قبعتا توم مالينوفسكي

TT

تعليقان لتوم مالينوفسكي مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمال يلخصان طبيعة العلاقة الشائكة والمتنافرة بين الملف الحقوقي والملف السياسي، حين يقعان في يد واحدة، لا على المستوى الأميركي فحسب، بل حتى على المستوى العالمي، ويفضحان المدى الذي تضيع فيه الحقيقة وينتحر فيه الحياد.

انكشفت فضيحة السجون المتنقلة التي استخدمتها أميركا لنقل المعتقلين لها سرا، من أجل التحقيق معهم خارج نطاق الضوابط القانونية الأميركية عام 2005، ومن هؤلاء المعتقلين كان «خالد المصري»، ألماني من أصل لبناني خطفته القوات الأميركية ونقلته إلى مقدونيا، ومن ثم إلى أفغانستان، واحتجزته 5 أشهر تعرض فيها لشتى أنواع التعذيب، ليكتشف المحققون بعد ذلك الخطأ الجسيم الذي ارتكبته القوات الأميركية نتيجة تشابه في الأسماء، فأعادته لألمانيا!! كان توم مالينوفسكي وقتها عضوا في منظمة «هيومان رايتس ووتش» لا تقيده القيود الرسمية حين انتشرت هذه الفضيحة، فاستل سيفه من غمده وسلطه على رقاب المسؤولين الأميركيين، فقال إن «الوزيرة رايس صورت عمليات التسليم الخاصة على أنها قانونية، وكأنها عملية تسليم عادية». وأضاف: «في الواقع إنها شكل من أشكال الخطف (وإخفاء) غير شرعي للأشخاص». كما شكك في تأكيد رايس تطبيق الولايات المتحدة لمعاهدة مناهضة التعذيب أثناء عمليات الاستجواب. وقال مالينوفسكي: «من المعروف لدى الجميع أن (سي آي إيه) استخدمت شتى أنواع سوء المعاملة القاسية ضد المعتقلين، مثل جعلهم يصلون إلى حد الغرق، أو منعهم من النوم، أو تعذيبهم معنويا»، واعتبر أن «تصريحات إدارة بوش حول عدم لجوئها إلى التعذيب لا معنى لها».

بعد 9 سنوات من هذا التصريح، تولى مالينوفسكي منصبا رفيعا في الإدارة الأميركية، وأصبح مساعدا لوزير الخارجية في أبريل (نيسان) 2014، فسُئل عن رأيه في التقرير الذي أعدّه مجلس الشيوخ أخيرا عن عمليات التعذيب الممنهج التي مارستها «سي آي إيه» في حق المعتقلين، فأجاب: «لا يكون الاختبار لأي أمة الالتزام بالاتفاقية وبسيادة القانون إذا ما ارتُكبت أخطاء، بل بالاستعداد لتصحيحها، وبكيفية القيام بهذا». وأضاف أن هدف الولايات المتحدة «المضي قدما، ولكننا نعرف أنه لكي نتجنب العودة إلى الوراء، لا بد لنا أن نكون مستعدين للنظر إلى الخلف، والتصالح مع ما حدث في الماضي».

شتان ما بين هذه النبرة المتسامحة المتفهمة التي تحدّث بها اليوم، والنبرة التي تحدث بها مالينوفسكي قبل 9 سنوات، حين كان عضوا في منظمة حقوقية غير رسمية، ولسنا بصدد المفاضلة بين النبرتين أو الموقفين، إنما نشير فقط إلى الثمن الذي يدفعه الملف الحقوقي، إن كان أحد الموقفين كاذبا!

تجربة توم مالينوفسكي في البحرين أبرزت صعوبة حمل القبعتين؛ السياسة والحقوقية، معا، فهي تجربة ترددت أصداؤها في جميع أنحاء العالم، بعد أن طردته مملكة البحرين واعتبرته شخصا غير مرغوب فيه، ليعد الأميركي الأرفع منصبا الذي يتعرض لمثل هذا الحرج، وقليلون الذي يعرفون أن تلك لم تكن التجربة المريرة الوحيدة لمالينوفسكي في البحرين، فقد سبق أن زارها في 2012، أي قبل أن يتولى المنصب الرسمي الرفيع، وكان عضوا في منظمة «هيومن رايتس»، وتلقفته مجموعة «الوفاق» من المطار، واختبأ ببيت أحدهم، وأثناء مطاردة رجال الأمن لأحد المطلوبين عُثر على مالينوفسكي مع الشخص المطلوب مختبئا في منزله، فاقتيدا إلى مركز الشرطة، وأُفرج عنه بعد ساعات، وخرج من البحرين غاضبا، فكتب تقريرا قال فيه: «على أميركا أن تستمر في إيقاف مبيعات الأسلحة للبحرين»، مشيرا إلى أن «خلاف ذلك سيبعث رسالة خاطئة إلى المتشددين والإصلاحيين في النظام الحاكم على حد سواء. وعليها أن تشرح لحكومة البحرين، بشكل سري على الأقل، أن الوقت آخذ في النفاد بالنسبة للإصلاح»، مشيرا إلى أن الأسطول الخامس يعطي أميركا قدرة على القول إن وجود القوات البحرية لا يمكن أن يستمر إذا لم يتحقق حل سياسي سلمي.

أما الزيارة الرسمية التي طُرد فيها من البحرين، فكانت في يوليو (تموز) من هذا العام. وتُعد البحرين المحطة الأولى التي دشن بها مالينوفسكي عمله الجديد بعد 3 أشهر من تعيينه، لكنها كانت محطة لن ينساها أبدا، إذ تعمد عدم الالتزام بالبروتوكل الرسمي وبقوانين مملكة البحرين، وزار مقر الوفاق دون ترتيب سابق مع وزارة الخارجية البحرينية، كما تقتضي البروتوكلات والقوانين المحلية، معتقدا أن هذا البلد الصغير لن يجرؤ على أن يحاسب مساعد وزير الخارجية الأميركية، لكنه فوجئ بردة فعل ترددت أصداؤها في العالم كله، حين أعلنت البحرين أن مالينوفسكي شخص غير مرغوب فيه، وعليه المغادرة فورا.

المفارقة أن مالينوفسكي حين سُئل عن أسباب طرده من البحرين أجاب أن السبب ليس شخصيا، ولا يتعلق به، إنما يتعلق بـ«مسار الحوار»، وصرحت «الوفاق» بأن مالينوفسكي كان يحمل في هذه الزيارة مقترحات لتحريك عملية الحوار الوطني البحريني الذي مضى عليه أكثر من 4 سنوات والبلد معلق بانتظار الوصول لتسوية توافقية لم تحصل.

لنتذكر أن مالينوفسكي هو مساعد وزير الخارجية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمال، أي أنه جاء حاملا الملفين؛ الحقوقي والسياسي في يد واحدة، جاء يستفسر ويراقب الوضع الحقوقي في البحرين، وجاء يقترح ويفاوض سياسيا في آن واحد، والأدهى أنه سيفاوض نيابة عن مجموعة سياسية محلية، ناهيك عن حجم التدخل الأجنبي الذي كان يحلم به هذا المسؤول الأميركي، إلا أنه لا يمكن لأي شخص يحمل القبعة السياسية والقبعة الحقوقية في آن واحد أن يخرج بنتائج موضوعية، فما بالك إن كان هذا الشخص أجنبيا يتحدث عن ملفات محلية شائكة؟!

حين تتشابك القبعتان (الحقوقية والسياسية) فإن ورطة وأزمة حقيقية سيعاني منها الملف الحقوقي بالفعل، خاصة إن كان من يلبسهما لاعب أكروبات فاشل يعجز عن خلع واحدة منهما حين يرتدي الأخرى، وهذا ما أربك مالينوفسكي في تعاطيه مع مملكة البحرين سياسيا أو حقوقيا (أيهما يحكم الآخر)، وكذا الحال بالنسبة لعديد من الوجوه البحرينية التي حملت القبعة الحقوقية إلى جانب حملها إرثا تاريخيا سياسيا تمثل في انتمائها لتنظيمات حملت السلاح من أجل إسقاط النظام في البحرين يوما ما.

فعائلة «الخواجة»، على سبيل المثال لا الحصر؛ الأب (عبد الهادي الخواجة) المحكوم بالمؤبد على خلفية أحداث البحرين الأخيرة كان قد هرب من البحرين في منتصف الثمانينات بعد اكتشاف خلية ينتمي لها كانت تخطط للقيام بسلسلة اغتيالات في تلك الآونة. تنقل بين سوريا وإيران والدنمارك التي حمل جنسيتها، وأصبح عضوا في أكثر من 70 منظمة حقوقية، وينتمي لتيار الشيرازيين الشيعي المتشدد، وابنتاه كذلك عضوان في منظمات حقوقية، وشكل كل فرد من العائلة مجموعة عنقودية تتناسخ وتتكاثر، وهذه المنظمات جميعها أصدرت بياناتها حين اعتُقِل، على خلفية محاولة الانقلاب على الدستور في البحرين.

مثلهم العديد من الأسماء البحرينية البارزة في المنظمات الحقوقية الدولية، فأغلبهم كانوا وما زالوا أعضاء مسجلين وناشطين في تنظيمات سياسية، بعضها خاض صراعا مسلحا (لتحرير البحرين) وظفوا التشبيك الحقوقي الدولي لخدمة تلك الأغراض السياسية والأجندة السياسية والمشروع السياسي الذي يقضي بإسقاط النظام، فضاعت الحقيقة حينها، وأصبح أكثر ضحايا هذا الاشتباك هو «الإنسان» الذي تتحدد إنسانيته وفقا لموقعه من الصراع السياسي عندهم.

بقي أن أختم هذا المقال بأن مالينوفسكي عاد للبحرين قبل أسبوع، بعد صفقة تقتضي الإفراج عن معدات قطع الغيار العسكرية التي كانت قد احتُجِزت ابتزازا لموقف البحرين السياسي من «الربيع العربي». عاد مالينوفسكي والبحرين قد انتهت للتو من عقد الانتخابات النيابية والبلدية من دون «الوفاق» التي قاطعتها، وحين سألته مراسلة «أسوشييتد برس» عن مدى قناعته بالتطور في مجالات حقوق الإنسان في البحرين، أجاب مالينوفسكي قائلا: «لقد حصل تطور على هذا الصعيد، إلا أن هناك ما يجب عمله».

هل حقا حصل تطور؟ أم أن للحسابات السياسية تأثيرا؟ لن نعرف الإجابة طالما كان حامل القبعتين شخصا واحدا.